الاجتياح التركي لن يعالج مشكلة تستوجب حلا سياسيا

الإصرار على استخدام القوة العسكرية من أجل الحد من مخاطر النتائج المنبثقة عن الممارسات الخاطئة، معناه أن دورة العنف التي أنهكت منطقتنا ستستمر.
الأربعاء 2019/10/16
حياة الأكراد السوريين تحولت إلى جحيم

الوضع في منطقة شمال شرق سوريا اليوم يتقاطع في أوجه كثيرة منه مع الوضع الذي كان في لبنان، وبيروت تحديدا عام 1982. ففي ذلك الحين شنت إسرائيل هجوماً شاملاً على لبنان، بدأ من الجنوب، ثم امتد ليحاصر بيروت، ويقتحمها. وكان الهدف المعلن منه منذ البداية هو إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان؛ وظلت إسرائيل مصرة على هدفها، تقصف بيروت برا وبحرا وجوا وسط صمت دولي وتواطؤ النظام السوري وعجز عربي، إلى أن تمكنت من إخراج المنظمة وقياداتها التاريخية بزعامة ياسر عرفات من لبنان.

الاقتحام الإسرائيلي لبيروت كان سابقة غير معهودة، إذ دخلت إسرائيل بالقوة العسكرية عاصمة عربية، واستعانت بالجهود الإعلامية واللوجستية والاستخباراتية التي قدمتها العديد من الفصائل اللبنانية، وهي الفصائل التي كانت في ذلك الحين في مواجهة فصائل أخرى من تلك التي كانت منضوية تحت إطار الحركة الوطنية اللبنانية، وهذه الأخيرة كانت قد تحالفت من جانبها مع منظمة التحرير. هذا في حين أن النظام السوري، الذي كان قد دخل إلى لبنان في عام 1976 بضوء أخضر أميركي وموافقة ضمنية إسرائيلية، ليقوم بدور قوات الردع التي كانت تضبط الأوضاع في لبنان لصالح النظام السوري ومشاريعه المستقبلية.

ويعرف المطلعون المتابعون لهذا الملف كيف دخلت منظمة التحرير إلى لبنان، وما هي الأدوار التي قامت بها هناك، وإلى أي حد تفاعل معها اللبنانيون سلبا أو إيجابا، وكيف تحولت إلى شبه دولة داخل الدولة اللبنانية التي لم تكن لها أي سلطة على المنظمة. ولا ننسى في هذا المجال حالة تعاطف الشعوب العربية بصورة عامة مع المنظمة وتأييدها لها، الأمر الذي كان يكسبها قوة معنوية هائلة لم تتمتع بها أي حركة عربية أخرى.

وفي يومنا هذا يأتي الهجوم التركي العسكري على منطقة شمال شرق سوريا بضوء أخضر أميركي، ومباركة روسية واضحة، ليشكل سابقة غير معهودة في طبيعة العلاقة بين البلدين، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار تلك التهديدات التركية بالتدخل في سوريا التي كانت عام 1998، وطالبت بموجبها النظام السوري بإخراج عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال وكوادر حزبه من سوريا، وكانت اتفاقية أضنة الأمنية العسكرية بين الجانبين عام 1998، ونفذ النظام السوري المطلب التركي.

والجدير بالذكر هنا هو أن العديد من قياديي حزب العمال الكردستاني الحاليين لديهم تجربة من لبنان وسوريا. فقد كانوا يعملون مع الفصائل الفلسطينية، وشاركوا في الأعمال القتالية أثناء الاجتياح الإسرائيلي، ثم انتقلوا إلى سوريا مع أوجلان ليتم استبعادهم عنها بموجب الاتفاقية المشار إليها.

الجيش التركي يخوض اليوم حربا على حزب العمال الكردستاني في منطقة شمال شرق سوريا، وفي المناطق الكردية الحدودية بصورة خاصة؛ ويهدد بتوسيع دائرة الهجوم، ورفع وتيرته. وقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة أن الهدف هو إخراج هذا الحزب من المناطق المشار إليها، وإعادة السوريين إلى منازلهم، وإيجاد الملاذ الآمن لأولئك الذين فقدوا بيوتهم، الأمر يفهم منه النية في إحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة، وهو الأمر الذي عبّر قرار مجلس الجامعة العربية الأخير صراحة عن رفضه له.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن دخول حزب العمال الكردستاني عبر واجهته، حزب الاتحاد الديمقراطي، إلى سوريا كان بالتفاهم والتنسيق الأمني مع النظام السوري، وذلك مثلما كان الحال عليه بالنسبة إلى دخول ميليشيات حزب الله، والقوات الإيرانية، ومن ثم الروسية.

ومع تطور مجريات الأحداث وتعقدها في سوريا، وتبدّل الأولويات، وجدت الولايات المتحدة ضالتها في هذا الحزب لاستخدام قواته في محاربة تنظيم داعش تحديداً من دون النظام، ويبدو أن هذا الأمر كان بالتفاهم والتنسيق مع الجانب الروسي الذي تقاسم أرض سوريا وسماءها مع الجانب الأميركي، بموجب توافقات لسنا مطلعين على نصوصها ولكننا نرى نتائجها التطبيقية على الأرض.

سوريا

استخدمت الولايات المتحدة حزب الاتحاد الديمقراطي أداة في حربها على داعش، وكانت تدرك الأبعاد السلبية التي سيتركها ذلك على العلاقات العربية- الكردية ضمن سوريا. فداعش، كما نعلم جميعاً، يتحرك في المناطق العربية السنية، ويتحكّم فيها، هذا في حين أن الاتحاد الديمقراطي كان يُقدم وكأنه يمثل الأكراد السوريين، هذا في حين أن الجميع يعلم أن هذا الحزب قد تم إقحامه في الساحة الكردية السورية لضبطها، ومنع تفاعلها مع الثورة السورية. بل إن هذا الحزب لا يستخدم صفة الكردية للتعريف بنفسه وبقواته، ولكن مع ذلك هناك إصرار لافت من جانب وسائل الإعلام الدولية والعربية والتركية على الربط بينه وبين أكراد سوريا، وهو ربط لا يعكس الواقع الفعلي.

وكان من الواضح منذ البداية أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عجلة من أمره بخصوص الانسحاب من سوريا، وذلك التزاما منه كما أعلن أكثر من مرة، بالوعود الانتخابية التي قطعها على نفسه أمام الناخب الأميركي.

وبالتوافق مع هذا، وجدناه يستعجل إعلان الانتصار على داعش بعد انتهاء معارك باغوز ربيع 2019، والمبالغة فيه، ليقرر في الوقت نفسه سحب القوات الأميركية التي كانت موجودة بصورة رمزية على الأرض السورية، حيث تشرف على القوات العسكرية التابعة لـ”ب.ي.د” وهي القوات التي كانت وقود العمليات البرية، التي كلفتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين.

ومن المفروض أن ترامب وأركان إدارته كانوا على اطلاع بما سببه اعتمادهم على الحزب المذكور من ضغط على الأكراد السوريين واستهداف لهم باتهامات الانفصال وعدم الوفاء والانتهازية وحتى الخيانة وغيرها من التهم، وهم في واقع الأمر لا حول لهم ولا قوة ولا تأثير ولا مصلحة في كل ما جرى من صفقات وصراعات وقتال على أرضهم وبإمكاناتهم.

وقد اضطر ترامب في ذلك الحين، وتحت تأثير الضغوط الداخلية ضمن إدارته على تعليق قراره دون إلغائه، إلى أن توصل مع الرئيس التركي إلى تفاهم ما زالت تفصيلات بنوده سرية، هذا رغم التخمينات والاستنتاجات. ولكن يبدو أن التوافق قد تم بين الرجلين، كل لأسبابه الخاصة، لاسيما الضغوط الداخلية والحسابات الانتخابية.

العملية التركية ما زالت في بداياتها، ولكنها منذ الآن قد حوّلت واقع الأكراد السوريين إلى جحيم يومي. فالأجواء هي أجواء حرب حقيقية في كل مكان. هناك تبادل للقصف من الجانبين يتسبب في قتل المدنيين من الجانبين، كما أن المرافق الحياتية قد تضررت وتوقف بعضها. والناس في نزوح عشوائي في مختلف الاتجاهات. وبكل تأكيد ستصبح الأمور أسوأ حينما تشتد المعارك وتتسع دائرة التدخل. وهناك خشية كبيرة لدى الناس من المسلحين السوريين المرافقين للجيش التركي تحت اسم “الجيش الوطني”، وهو جيش تسليحه وتمويله وتعليماته بالكامل من الجانب التركي. فلدى قسم كبير من عناصره سجل حافل بالانتهاكات التي أقدموا عليها في منطقة عفرين، وكل الخشية من أن تتكرر التصرفات ذاتها هذه المرة في منطقة شرقي الفرات، وفي الجزيرة السورية تحديدا، وقد عززت صور الانتهاكات التي تناقلتها وكالات الأنباء هذه الهواجس.

فالدول لا تورط نفسها عادة بالجرائم التي يمكن أن تحاسب عليها، أمام المنظمات الدولية، وإنما تسند المهام القذرة إلى التابعين المحليين، ونذكّر في هذا المجال بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومجزرة صبرا وشاتيلا التي كانت بأيدي قوى لبنانية في ذلك الحين، وفي ظل الوجود الإسرائيلي.

كيف سيكون مآل الأوضاع في نهاية المطاف؟ هل ستدخل تركيا إلى منطقة شرقي الفرات لتبقى، مثلما فعلت حتى الآن في المناطق الأخرى من الشمال السوري، ومنها عفرين؟ أم أنها عملية محدودة من جهة الوقت والأهداف، ستنتهي بمجرد إخراج حزب العمال الكردستاني من الساحة السورية، كما فعلت إسرائيل حينما أخرجت منظمة التحرير من لبنان؟

ولكن في الحالة الأخيرة كانت هناك سلطة لبنانية شكلية، توافقت إسرائيل معها على الخروج مقابل التزامات معينة. هل ستفعل تركيا الأمر نفسه مع نظام بشار الأسد، متسلحة باتفاقها الأمني الذي كان مع والده؟ أم أنها ستنتظر، ربما بتوافق مع الجانب الأميركي، إلى حين انقشاع غبار المعارك ووضوح الرؤية، لتدخل في مفاوضات من موقع قوي مع المتصارعين على سوريا من غير المتاخمين لها؟

أم أن هذا التدخل سيكون مقدمة لتحريك العملية السلمية المشلولة، للوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا نفسها، فتتحول هذه القضية من مشكلة إلى جسر للتواصل بين تركيا والمجتمعات والدول المحيطة بها، وبذلك تتحرر تركيا من عقدة الهاجس الكردي الذي يؤرق التفكير السياسي التركي سواء في الحكم أم في المعارضة؟

فهذا الهاجس يترك آثاره السلبية العميقة على الأوضاع في الداخل التركي، خاصة من جهة التعايش المشترك بين مختلف مكونات النسيج المجتمعي الوطني في تركيا. كما أنه يربك علاقة تركيا مع المجتمعين الدولي والإقليمي، ويؤدي إلى التشكيك في قدرتها على أداء دور النموذج المطلوب الذي من شأنه الإسهام في عملية تأمين الأمن والاستقرار، وذلك كمقدمة لعملية نهوض كبرى، تطمح لضمان مستقبل أفضل للأجيال الشابة في المنطقة، لتمكنها من توظيف طاقاتها وإبداعاتها في ميادين الإنتاج والتقدم العملي والتكنولوجي، الأمر الذي سيخفف من التشدد والتطرف ويجفف منابع الإرهاب، ويفتح الأبواب واسعة أمام إمكانيات حقيقية لحل مشكلات المنطقة بأسرها على أساس التفاهم والاحترام المتبادلين، ومراعاة المصالح المشتركة.

إذا كنا نريد الخير لمجتمعاتنا، علينا أن نبحث في جذور المشكلات، لنعمل على تقديم الحلول الواقعية لها. أما أن نصر على استخدام القوة العسكرية من أجل الحد من مخاطر النتائج المنبثقة عن الممارسات الخاطئة، فهذا معناه أن دورة العنف التي أنهكت مجتمعات منطقتنا ودولها ستستمر، وستستمر معها دورة استنزاف الموارد البشرية والمادية، وهذا ليس في صالح أحد.

الحكمة تلزمنا بالقطع مع التعصب بكل أشكاله ومسمياته، والبحث المشترك عن الحلول الإبداعية الممكنة رغم كل ما حدث ويحدث.

9