الجزائر.. قراءة الدرس التونسي واجبة

قبل البدء بإقامة أي مقارنات بين الحراك الدائر في الجزائر وغيره من سيناريوهات الاحتجاجات السابقة التي شملت عدة دول عربية أخرى. لا بد من الإقرار بأن الجزائر واقعة في أزمة منذ لحظة إعلان الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عن تقديم استقالته. فراغ منصب رأس النظام هو أكبر تعبير عن هذه الأزمة بغض النظر عن طبيعة هذا النظام. لم يفكر الجزائريون طيلة حراكهم المتواصل في قيادة تنادي باسمهم. هذه مشكلة حقيقية وقع فيها الجزائريون. صحيح كان الخوف من الالتفاف على صوت الشعب ومصادرة شغفه بالتخلص من نظام فاسد، لكن كان الأولى التفكير في الطريقة التي يكون بها هذا الخلاص. هل على شاكلة ما تم في تونس؟ الأمر بالنسبة للبعض ممكن، لكنه يحتاج توافقا لا يبدو أن صدى الشارع يعبّر عنه صراحة. الجزائريون رافضون للكل وقالوها صراحة “يتناحو قاع” (أي يرحلون جميعا).
رغم دعوة البعض إلى عدم إسقاط السيناريو التونسي على الحراك المتأجج في الجزائر، إلا أن الحالة الجزائرية تبدو شبيهة تماما بالسيناريو التونسي في يناير 2011 بعد مغادرة زين العابدين بن علي البلاد تحت ضغط الشارع ليترك المنصب شاغرا. بوتفليقة ترك هو الآخر منصب الرئاسة شاغرا بقراره الاستقالة. ربما درس نظام بوتفليقة والمحيطون به جيّدا الحالة التونسية وهي الأقرب إليهم جغرافيا وسياسيا وحتى أيديولوجيا.
سيناريو الفراغ هذا يبدو أنه قُرئ جيدا من جانب النظام الجزائري، فهو يعطيه أولا الفرصة لاستعادة النفس من هول الضغط الذي عاشه في المرحلة الأخيرة. وثانيا يسمح له بهامش المراجعة لخططه وترتيباته على ضوء ما يفرضه الشارع وإن بطريقة محسوبة ومدروسة جيدا. طبعا هذا لن يتم دون تخطيط ودراسة تكون المؤسسة العسكرية ممثلة فيهما. هنا يلتقي المثالان التونسي والجزائري في التعبير المشترك عن مكامن المغازلة لقوة الشارع لامتصاصها، وترقب لحظة فتورها للانقضاض عليها. الجنرال رشيد عمار خرج في تونس معلنا النصر وتجنيب البلاد “حمام دم” كما قالها سابقا. وينتظر أن يكون الموقف ذاته معلنا من قايد صالح في الحالة الجزائرية.
الآن الوضع في الجزائر أصبح أخطر من ذي قبل، وهو وضع مفتوح على جميع السيناريوهات بشهادة الجميع. هذا الوضع ينبّه إليه أحمد مراني الوزير الجزائري السابق، المحسوب على جبهة الإنقاذ المحظورة، بقوله “الوضع أخطر مما تتصوره السلطة التي لم تفهم الإشارات الأولى التي سبقت الحراك، كما حصل في تونس ولا أستبعد أن يحصل ما حصل في الشقيقة تونس”. مراني توقع أيضا تواصل خروج المتظاهرين بأعداد مرتفعة في الأسابيع القادمة، وهو ما حصل بالفعل في الأسبوع السابع لخروج المظاهرات الجزائرية.
تفكيك الأبعاد المحتملة للسيناريو الجزائري يحمل الجميع إلى التفحص مليّا ما حصل في تونس. قوتان تقفان في اتجاه “مضاد”. الجيش في مقابل الشارع. حراك مشتغل من جهة، بموازاة احتلال المؤسسة العسكرية للجهة الأخرى رغم هامش تنفيس الضغط الذي لازالت تسمح به. لكنّ هاتين القوتين غير متكافئتين إذا ما تمت مقارنتهما بالسيناريو التونسي.
الجيش في الجزائر صاحب نفوذ وقوة، وهذا يدركه الجزائريون جيدا. لكنه أيضا قوة نظامية لم يعد يرغبون في تواصلها. يقر بذلك الكثير منهم سواء من داخل الحراك عبر رفع لافتات وبيانات تعبر عن هذه الرؤية. فيما يحتدم الجدل بين رؤية الكثير من المثقفين والمدعوين إلى تحليل الوضع بمختلف الفضائيات حول حقيقة أن يرحل الجميع بمن في ذلك قائد الجيش نفسه أحمد قايد صالح.
إذا كان الجزائريون لا يريدون النظام بجميع مكوناته، ومؤسسة الجيش بجميع رموزها، ويصرون على أن واجب المؤسسة العسكرية لا يجب أن يتجاوز حماية الحدود وتوفير الأمن للجزائريين، وهذا طرح منطقي ومعقول، فهل يمكن أن يتنازل الجيش بهذه السهولة على مقاليد الحكم، وفرضا أنه تنازل لمن ستؤول الأمور؟ من سيتولى الترتيب لمرحلة الشغور الرئاسي التي تمر بها البلاد؟
صراع محاور وأجنحة يفرض نفسه ويطفو على سطح الأحداث، في مقابل دولة عميقة، الجيش ممثل فيها، لا تأبى وجوهها الخروج للعلن.
واهم من يعتقد أن المؤسسة العسكرية في الجزائر يمكن تغييبها الآن ودفعها لخروج مماثل لما فعله عبدالعزيز بوتفليقة. ضغط الاحتجاج نعم، لكن رؤية الحراك تبدو مخالفة لهذا الطرح. هذه المؤسسة ظلت متحكمة في البلاد منذ قرابة 20 عاما وتشتغل مع النظام ولم يعد لديها ما تقدمه للشعب الجزائري. لكن الأكثر استفزازا بالنسبة للجزائريين ضلوعها في عمليات فساد كبيرة كانت وراء الإقالات المتتالية للعديد من كوادرها وكانت الوقود الأساسي لحراك الشارع المتأجج حاليا. بينما في تونس الجيش محايد وهو من حمى الثورة، وهذه شهادة يرددها الجميع في تونس إلى الآن. نقطة أخرى لا تجتمع فيها المؤسستان في كلا البلدين وهو قدرة الأولى الضاغطة على نفوس الشعب الجزائري، فيما وقع تجريد الثانية وتحييدها عن التجاذبات السياسية وعن كل ما يتعلق بأدوات الحكم في تونس والدعوة دائما إلى عدم تسييسها.
كيف يتم المرور إلى مرحلة ما بعد بوتفليقة؟
هذا هو السؤال المنطقي والمفترض أن يقف عنده الجميع في الجزائر. لكن كيف يكون ذلك ممكنا من دون الرموز المحسوبة على نظام بوتفيلقة؟ هذا هو اللغز المحير بالنسبة للجزائريين الذين تأخذهم الحيرة أيضا بكيفية إزاحة المؤسسة العسكرية من طريقهم والتخلص منها هي الأخرى بعد رحيل نظام بوتفليقة ورموزه.
بغض النظر عن الاستقالات التي تمت أو ستتم في الأيام القليلة القادمة، سواء منها التي شملت المؤسسات الدستورية أو أجهزة الدولة الأخرى، فإن الكرة الآن في ملعب المؤسسة العسكرية وهي من ستخطط وتدرس وتقيل وتعيّن وتفعل ما تريد. لكن ذلك لن يكون خارج أطر ما هو متفق عليه في كواليس النظام بوجوهه المتعددة.
التجربة التونسية مازالت ماثلة أمام الجميع. الدولة العميقة لم تفكك أو تندثر، والرموز المحسوبة على النظام السابق صحيح أنه وقع التنديد بها إبان الحراك الثوري وظل الكل يتقاذفها بالسب والشتم، والكثير منها تعرض للإهانة، لكنها سرعان ما عادت من الباب الخلفي للمشهد السياسي وكأن شيئا لم يكن. لا بل إن هناك من عاد للنشاط الحزبي، ولقيادة الأحزاب ولتصدر استطلاعات الرأي وإعلان الترشح للرئاسة، وآخر ممثل في الحكم بحقيبة وزارية وضعت على مقاسه. أما العدالة الانتقالية، فموضوع آخر يطول شرحه.
تلك هي المحاور الكبرى للدرس الحقيقي التي يتوجب على الجزائريين قراءة معانيها جيدا وباقتدار وتفحص كل كبيرة وصغيرة فيها. الباقي ضغط الشارع وحده الكفيل بتحقيقه.