كلام برسم الشعراء

الشاعر الذي يقف أمام قصيدته ليقول هذه هي أنا هو شاعر لم يعد لديه ما يقوله، وقد خانته شاعريته. في الشعر كما في أي كتابة أدبية أخرى لا حدود لفضاء الإبداع والتجاوز، لأن الركون إلى منجز بوصفه اختزالا للذات الشعرية، هو إعلان عن نهاية الشاعر، وتأكيد على شيخوخته، وإلا لماذا يواصل الشاعر مغامرة الكتابة دون هوادة، وكأنه في سباق المسافات الطويلة بين مخيلته وبين القصيدة التي لم تكتب بعد.
الشاعر الذي لا يضيف مع كل قصيدة جديدا إلى رصيد تجربته، يعيد كتابة ذاته بأشكال أخرى. شعراء كثيرون كتبوا عن الحب وفي كل قصيدة كانوا يحاولون أن تكون القصيدة كافية ليدركوا معنى هذه التجربة، لكنهم كانوا يكتشفون المسافة التي ما تزال ماثلة بين القصيدة وما يجب أن تكون عليه، مسافة كانت كافية لمغامرة أخرى وأخرى في هذا الفضاء المفتوح على عمق اللحظة الممتلئة بأسرارها ودهشتها ومعانيها المخاتلة.
كتب نيرودا أكثر من ديوان عن الحب والمرأة التي أحب، وكتب أراغون ديوانا وأكثر لإلزا ولم يكن ذلك كافيا لقول ما كان يجب أن يقال. لذلك فإن النص المخاتل في هذه المغامرة المفتوحة مع الشعر هو الشيء الذي يظل يغري الشاعر بالكتابة، أو لنقل هو اللاشعور الخفي في هذه التجربة، والذي يقود الشاعر في مغامرة البحث عن النص الغائب، وإلا لكان علينا أن نختصر الشاعر في قصيدة ما.
وما ينطبق على الحب ينطبق كذلك على موضوعات الشعر الأخرى مثل الثورة والحرية والحياة والزمن، لا لأن هذه الكلمات حمّالة أوجه وحسب، بل لأن الشاعر يظل يطارد قصيدته وهو يحاول أن يمسك بمعناها وقد اكتست بجمال القول. القصيدة كالنهر الذي يصعب الإمساك بمائه. لذلك يظل الشاعر يركض معه في أرض أخرى وفضاء آخر، وإلا كان الشاعر قد خسر السباق مع القصيدة.
كتب الشعراء عن الحب منذ آلاف السنين وما زال الشعراء يكتبون وسيبقون بعد هذا الزمن يكتبون عنه. وكتب الشعراء عن الألم والأمل والفرح وعن الكفاح من أجل الحياة وسيظل الشعراء يكتبون عن كل هذا. تتسع اللغة وتضيق عند الشاعر عندما يتسع أفق المخيلة ويضيق، ولذلك لم يتوقف الشعر عن تعميق مجراه وتوسيع حدوده، لأن ثمة شاعرا جديدا يولد، وثمة مخيلة ترود أفق القصيدة الجديد.
الشاعر الذي لا يطارد نصه الغائب في كل مرة يكتب فيها قصيدته هو شاعر محكوم بالفشل لأن لا أفق للقصيدة ولا تخوم للكتابة، وإلا لكان الشعراء منذ زمن كتبوا قصيدتهم الأخيرة، وأنهوا مغامرة الكتابة.