ذو العيون المتغامزة

ربما يكون أكثر مقدمي هذه البرامج صفاقة، ذلك الفتى الذي يرتدي سترة بنّية وقميصا زهري اللون، ويظل يغمض عينيه أكثر مما يفتحهما طوال مدة التسجيل، ربما من خشية الافتضاح.
الأحد 2019/04/07
على “يوتيوب” يتقافز حصان “الجماعة” الذي أسرجته تركيا

يخال المرء أن برنامج “يوتيوب” لمشاركة التسجيلات المرئية؛ قد صُنع ليكون بمثابة الحصان الأخير الذي أسرجته دولة قطر لجماعة “الإخوان”، في ضيافة العثمانية الأردوغانية، الطامحة إلى الوصاية علينا باعتبارنا أمة ضالة. فلعل “الجماعة” التي أفشلتها رعونتها، وتقهقرت في الإقليم، تاركة بعض الارتجاعات اليائسة؛ تفلح بسلاح الأشرطة وبرامجها، في ما لم تفلح في إنجازه، بأسلحة التنظيمات السرّية والاغتيالات وبمحاولات خلخلة قواعد الأوطان وبنيانها النفسي، وشطب ما استقر في وعي الناس من دواعي الاعتزاز بالنفس، وبذكرى الراحلين من الأخيار، الذين اجتهدوا فأصابوا أو اجتهدوا وأخطأوا. فعبر “يوتيوب” سيأتي النبأ اليقين: نحن أمّة لم يكن فيها محترمون في القرن العشرين، لذا فقد قيّض الله لنا، في الزمن الأردوغاني، من يشرح لنا، بلغة معتوهة وفاجرة وبلا تقوى، كيف دس علينا اليهود، المناضلون منا، والعسكريون، والمفكرون، والفقهاء المستنيرون، والفنانون المبدعون!

معنيون هنا بالمـلـمح العام لمقاصد تلك المجموعة المتكاثرة من برامج الثرثرة التي تبث من تركيا، وهي تفتح النار على التاريخ كلّه، وعلى أدوار السابقين الذين لم ترض عنهم الصهيونية. فهؤلاء جميعا، في عروض الأشرطة، مجرد جواسيس وخونة، ولكل واحد منهم قصة وسياقُ فضائحي وتاريخ آثم يعرفه الذكي المُلهم وحده الذي اكتشف أن الجميع من صنع اليهود، أو من حارات اليهود، وكأن مشكلة الظلم الاستعماري، قد جاءتنا من تلك الحارات، وليس من الصهيونية ومن بريطانيا صديقة “الجماعة” ومنشئتها. وكأن التخلف الذي أضعف أحوالنا، وتراكم عبر أربعة قرون، لم يأتنا من تركيا، وكأن خيبة تركيا نفسها لم تأت من التيار التركي الطوراني العنصري، صديق الصهيونية، الذي أطاح بالسلطان!

ربما يكون أكثر مقدمي هذه البرامج صفاقة، ذلك الفتى الذي يرتدي سترة بنّية وقميصا زهري اللون، ويظل يغمض عينيه أكثر مما يفتحهما طوال مدة التسجيل، ربما من خشية الافتضاح. فعلى امتداد السياقات كلها، يسعى هذا إلى إظهار الشعوب وكأنها جموع من مغفلين سادرين في الغيْ. أما الاستثناء الوحيد فهو “الجماعة” ورموزها. فهؤلاء هم الشرفاء الذين لم يعرفوا مخابرات الاستعمار القديم ولا الجديد، ولم يقتلوا ولم يسعوا إلى سلطة ولم ينافقوا فاسقا!

على “يوتيوب” يتقافز حصان “الجماعة” الذي أسرجته تركيا ومعها القصر ذو الشرف الرفيع، الذي لم يبرم اتفاقات أمنية مع واشنطن، لم يستضف قاعدة عسكرية لها، ولم يتخابر مع يهودي صهيوني. فالعسكر ورؤساء الجمهوريات وشيوخ الأزهر ورُعاة الكنيسة القبطية والفنانون والمفكرون، هم الذين فعلوا كل شيء، وإن لم تصدقوا فاسألوا أحدهم، وليكن ذلك الفتى ذو العيون المتغامزة والسترة البنية!

24