إبداع الشباب والتزامهم يصنعان استثنائية الحراك الجزائري

الحراك الشعبي يعيد الأمل للشباب ويثنيهم عن ركوب قوارب الموت المنظمة من عصابات الهجرة السرية التي أصيب نشاطها بالركود.
الأحد 2019/04/07
اليأس يغير مواقعه في نفوس الشباب

جمع الحراك الشعبي الجزائري الشباب من كافة فئات المجتمع من العاطلين عن العمل والأطباء والمهندسين والعمال، يحملون هدفا واحدا وأملا واحدا في جزائر جديدة تستوعب إبداعهم وإمكانياتهم وطاقاتهم.

الجزائر - يفخر الشباب الجزائري بحراكهم الذي سيدوّنه تاريخ الجزائر، عندما هبت البلاد بصوت واحد من أجل القطع مع بنية سياسية عمرت ستة عقود، ويعتبرون أن البلاد دخلت مرحلة جديدة سيكون لهم فيها مكان بعد أن كانت أقصى أمانيهم الوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط.

يؤكد الشباب أن أكبر خاسر من حراك الجزائر بعد نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، هو عصابات الهجرة السرية التي أصيب نشاطها بالركود، بعدما غير اليأس مواقعه، واشتعلت جذوة الأمل في نفوس الشباب، حيث توقفت قوارب الهجرة غير الشرعية “الحرقة” من مرافئ البلاد إلى سواحل شمال البحر المتوسط، لأن اليائسين والمغامرين بحياتهم انخرطوا في الحراك الشعبي، وتحولوا إلى ذخيرته التي يتغذى بها من أسبوع إلى آخر.

ويبقى حراك الجزائر شاهدا على تغير القيم والمفاهيم لدى الشباب، فبمجرد بروز قواسم مشتركة بينهم، عادت الثقة إلى الوطن بعدما ضاق عليهم، ورمى بهم في مغامرات “الحرقة”، بدل أن يحتضنهم ويستمع لآهاتهم، وعاد الأمل بعدما استبد بهم اليأس.

وذكرت الإحصائيات الرسمية لقوات البحرية وخفر السواحل أنها سجلت خمس محاولات هجرة غير شرعية منذ اندلاع الحراك الشعبي في الثاني والعشرين من فبراير الماضي، وهو تطور صادم بعدما كانت تقدر الأرقام بالمئات من الحالات أسبوعيا، ما يوحي بأن الأمن تصنعه الحريات والأمل وليس المقاربات الأمنية التي تقضي بسجن “الحراقة” لمدة ستة أشهر نافذة.

أثبتت المعاينة الأولية أن الحراك الشعبي قد أعاد في ظرف أسابيع فقط الأمل للشباب، وحولهم إلى طاقة مبدعة في مختلف المجالات التعبيرية، وأن الملتقى الذي نظمته وزارة الداخلية والجماعات المحلية، خلال الأشهر الماضية، هو “مضيعة للوقت والجهد”، لأنه فشل في تقليص الظاهرة ولو بنسبة قليلة.

تراجع الهجرة

وتحول الاهتمام الذي كان في أشهر قليلة فقط، مركزا لدى الآلاف من الشباب الجزائري، حول آليات وكيفية ركوب المغامرة من إحدى نقاط الإقلاع، إلى إبداع في شوارع وساحات الحراك الشعبي، تجسد في صور ومشاهد شدت العزم والإرادة في الذهاب بمطلب الشعب إلى نهايته وتحقيق الرسالة التي خرج الملايين لتبليغها إلى السلطة.

وكما في الشارع، كانت شبكات التواصل الاجتماعي تعج بمشاهد التحول الاجتماعي في الجزائر، وبصناعة شبابها لمرحلة جديدة تقطع مع النظام السياسي القديم، فكان مجرد رسم أو تعليق أو صورة أو نداء، كافيا لشحذ الهمم والعزائم في الساحات والشوارع.

الحراك فرض ميثاقه على الجميع
الحراك فرض ميثاقه على الجميع

ولأن المرحلة كانت تتطلب الحفاظ على الوتيرة والتعبئة وعدم الاستسلام لخطاب وممارسات الشك التي كان يديرها النظام، فقد تجند الشباب في مختلف المجالات الفنية والإبداعية، فظهرت أغاني الحراك وقصائده ومسرحياته ولوحاته التشكيلية، وتحولت ساحات أول مايو والبريد المركزي إلى مسرح مفتوح يعرض ما تتفتق به قرائح الشباب.

وتبقى للشعوب خصوصياتها المميزة، فبمجرد الإعلان عن انتقال الرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة للعلاج في المستشفى الجامعي بجنيف السويسرية، تجند الشباب للاتصال الهاتفي الكثيف بالمستشفى لتبليغ رسائلهم السياسية للإدارة، بطلب الاطلاع على صحة رئيسهم.

واعترف الناطق الرسمي باسم المستشفى، في تصريح لصحيفة “لاتربين دو جنيف” المحلية، بأن المحول الهاتفي للمستشفى كان يستقبل ثلاثة آلاف اتصال يوميا، وصار يستقبل ستة آلاف اتصال يوميا، منذ دخول الرئيس بوتفليقة إليه، وأن أغلب المتصلين هم من الجزائر.

ولم يتوقف الأمر هنا، بل صارت صفحات الناشطين تعج بالأرقام الهاتفية لبعض القصور الرئاسية على غرار فرنسا وروسيا، لتمكين الشباب من الاتصال بها لإبلاغ رسائل التنديد ورفض التدخل الأجنبي، بعدما استعانت السلطة الجزائرية بباريس وموسكو من أجل مساعدتها على تطويق الحراك الشعبي.

وتناقلت التسجيلات الكثير من الاتصالات من شباب جزائريين، يبلغون القائمين باطلاع رؤسائهم عن رفض الجزائريين لمسائل التدخل في شؤونهم الداخلية، وأن ما يجري في بلادهم هو شأن بينهم وسيحل بإرادتهم.

ولادة فنانين من رحم الحراك

كانت أغنية “وين بيها وين”، التي استلهمت موسيقاها من الأغنية الحماسية “وين الملايين” للفنانة اللبنانية جوليا بطرس، مع كلمات من اللسان الجزائري الدارج، فاتحة موجة من الأغاني والتركيبات التي أفرزها الحراك الشعبي، حيث مجدت تلاحم الشارع وهاجمت سلطة بوتفليقة.

وأطلقت الفنانة راجا مزيان خريجة مدرسة ألحان وشباب، أغنية حول الحراك الشعبي، عبرت فيها عن تضامنها مع جموع المواطنين، ومطالب تغيير النظام السياسي، وحققت الأغنية الآلاف من المشاهدات عبر قناتها على يوتيوب.

وفيما توارى الفنانون المعروفون في الساحة خلال المرحلة الماضية، ولم تبق منها إلا أغان رمزية محدودة للفنان الكبير رابح درياسة، كـ”هاذي البداية ومازال مازال” و”يحياو أولاد بلادي”، أفرز الحراك الشعبي موجة جديدة من الفنانين الشباب الذين واكبوا الشارع وساهموا في صناعة الملحمة.

تضامن شبابي
تضامن شبابي

وبعفوية مطلقة أفرز الحراك الشعبي تنظيما ميدانيا يتكفل بمستلزمات المسيرات الشعبية، كالإسعاف والتوجيه والمساعدة والتدخل في الحالات الطارئة، فرغم الملايين التي تخرج أسبوعيا في العاصمة والمدن الكبرى ومختلف محافظات الجمهورية، لم تسجل إصابات أو جروح نتيجة الزحام، ولم يفقد أي طفل أو صبي ولم تضيع أي أشياء ثمينة أو يتعرض أحد للسرقة.

ويعد أمين بدراوي (28 عاما)، خريج مدرسة في التكوين شبه الطبي، أحد أفراد فريق طبي، يتكفل بتقديم الإسعافات للمشاركين في المسيرات الشعبية في العاصمة، وبسترات مميزة وحقائب طبية وضع الفريق خطة عمل تطوعي لتقديم خدماته.

وصرح لـ”العرب” أن “الفريق يتكون من عدة أعضاء متطوعين يملكون تكوينا طبيا، وفينا الطبيب والممرض والتقني من النساء والرجال، وأن الفكرة تبلورت في الحي الذي نقيم فيه (بلوزداد)، وتجسدت بإمكانيات بسيطة تبرع بها بعض الصيادلة، ونسهر على تقديم الإسعافات والتدخلات الأولية لإنقاذ أي فرد في حالة أي طارئ صحي”.

وأضاف “مجرد ارتداء سترات مميزة ووضع أربطة على أذرعنا، مكن الكثير من الاتصال بنا من أجل التدخل أو التوجه إلى نقطة معينة، وهو عمل تطوعي ومساهمة منا في إنجاح الحراك الشعبي وتحقيق مطالبه”.

وكما في ساحة أول مايو بالعاصمة، حيث كان الشباب يقدمون الخبز والتمر والبرتقال واللبن للقادمين من تخوم العاصمة أو المدن المجاورة لها، لأن المحال التجارية كانت تغلق أبوابها بمجرد بداية صلاة الجمعة، فقد كان محمد أكلي (22 عاما) يسهر على تقديم أطباق الكسكس للقادمين من خارج مدينة بجاية من أجل التظاهر.

وقال في تصريح لـ”العرب” إن “الكثير من العائلات في مدينة بجاية كانت تسهر على إعداد كميات وأطباق كثيرة من الكسكس منذ ساعات الصباح الأولى من الجمعة، ليتم توزيعها على القادمين للمدينة من أجل مواجهة ساعات بذل الطاقة في السير والتظاهر والهتاف”.

وأضاف “نحن مجموعة من شباب الحي، بيننا العاطلون عن العمل والطلبة والعمال، نتطوع بهذا النشاط، وبمجرد حلول منتصف النهار، نبدأ في توزيع أطباق الكسكس على القادمين من خارج المدينة، وفي حواف الطرق والأرصفة تقام موائد الغذاء الجماعي، وهذا شيء طبيعي قياسا بخصال الكرم والتضامن التي يتميز بها سكان مدينة بجاية”.

وفي مدينة وهران كان الشاب شمس الدين بلحاج أحد الفاعلين الميدانيين في تأطير وتنظيم المظاهرات الأسبوعية، بحيث تحول بإمكانية الشخصية إلى أول ممون للمتظاهرين بالرايات الوطنية والمياه المعدنية.

وصرح “بمجرد ملاحظتي لغياب لون معين في المسيرة، اهتديت إلى فكرة توزيع الآلاف من الرايات الوطنية على الشباب، حيث تحولت إحدى المطابع الخاصة في المدينة للعمل بشكل متواصل من أجل تلبية طلباتي الأسبوعية، وهو ما بعث الألوان الوطنية على شوارع وساحات المدينة، كما وضعت عددا من تجار الجملة تحت خدمتي لتوفير الآلاف من قارورات المياه المعدنية لتوزيعها على المتظاهرين، وتم تعيين نقاط معينة لتوزيع الرايات والمياه”.

تطوع الشباب

أكبر خاسر من الحراك هي عصابات الهجرة السرية
أكبر خاسر من الحراك هي عصابات الهجرة السرية 

وكشفت معاينات أولية عن إفراز الحراك الشعبي عن الكثير من الظواهر المفقودة في الجزائر، حيث سجلت مصالح الأمن تراجعا في أعمال السرقة والاعتداءات وحتى التصرفات الشاذة في الشوارع، بما فيها سلوكات التحرش أو معاكسة الفتيات، وتذكر بأن الحراك فرض ميثاقه على الجميع بمن فيهم الشبان المنحرفين، الذين تحولوا في بعض الأحيان إلى عناصر حماية للممتلكات الخاصة والعمومية من اعتداءات محتملة للعناصر التي دستها دوائر مناهضة للحراك في الأسابيع الأولى.

ومع انضمام أولئك الذين كانوا قبل الثاني والعشرين من فبراير الماضي مدرجين في خانة المنحرفين للهبة الشعبية، تقلصت حظوظ تشويه أو إجهاض الحراك الشعبي من طرف العناصر المندسة بإيعاز من دوائر معادية للحراك، حيث وقف لهم هؤلاء بالمرصاد، فكانوا بذلك أول الذين أعاد الحراك تأهيلهم اجتماعيا وأخلاقيا بعدما فشلت السجون في تقويمهم. وحولت جمعيات وناشطون في البيئة فرصة الحراك الشعبي لترقية الوعي الجمعي، إلى التطوع في تنظيم حملات نظافة وطنية، وتحت شعار “تحب بلادك نظف بلادك”، الذي انضم إليه المئات من الشباب، وحتى أكياس القمامات تحولت إلى لوحات تشكيلية في الهواء الطلق، وحظيت العديد من النقاط بالترميم والطلاء لإضفاء مشاهد جميلة على مدنهم.

ولقيت الحملات التطوعية إقبالا ومشاركة واسعين تحولا بمرور الأسابيع إلى منافسة بين شباب المدن للتباهي بها في شبكات التواصل الاجتماعي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تطوع الشباب في سلوك تلقائي لتنقية وتنظيف الشوارع والساحات بعد انتهاء المظاهرات والمسيرات، وهو ما يعطي الانطباع للغريب بأنه لم يحدث شيء في هذه المدينة أو تلك ساعات قبل ذلك.

وكما انطلقت المبادرة من الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وسطيف، امتدت حملات البيئة والنظافة لتشمل العشرات من المدن الجزائرية، في مدينة عنابة بشرق البلاد، وأطلقت جمعية “الدراجة الخضراء” حملة تعبئة الشباب وتجنيد طاقتهم في نشاطات إبداعية، وتحت شعار “نموت كي يحيا الوطن يحيا لمن، إن لم يكن الوطن بنا نظيفا آمنا فلا عشنا ولا عاش الوطن”، وكانت النتيجة في ظرف قياسي، انخراط العشرات من الشباب في الحملة وتم تنظيف العشرات من الأحياء والنقاط السوداء وكورنيش المدينة من القمامة والنفايات.

وتحول مشروع النظافة والبيئة إلى ممارسة في أوساط المتظاهرين، حيث تطوع أعضاء الجمعية بتوزيع شعارات “بلادنا هي دارنا الكبيرة”، و”حب الوطن ليس بالشعارات” فضلا عن مطويات وأكياس بلاستيكية على المتظاهرين، لحثهم على التحلي بسلوك الحفاظ على البيئة ونظافة الشوارع، لإبلاغ المتابعين بما أسموه بـ”الرسالة الحضارية للحراك الجزائري”.

وكما أضفى انخراط طلبة الجامعات وحتى تلاميذ المدارس والثانويات انتقالا سياسيا ونوعيا في الحراك الشعبي في أسابيعه الأولى، فقد كانت بصمة هؤلاء واضحة في مظاهر فنية وإبداعية، تراوحت بين تنويع الشعارات السياسية والهتافات الرمزية، واللمسة الخفيفة والهزلية المقاومة للحظات الشك التي فرضتها السلطة الحاكمة على الوضع في البلاد.

19