جيلالي سفيان: الطبقة السياسية في الجزائر منتهية الصلاحية

يقدم الأكاديمي والمعارض السياسي الجزائري جيلالي سفيان الحراك الشعبي في بلاده في ثوب الحصيلة الآلية للتغيرات الاجتماعية والسوسيولوجية في المجتمع الجزائري. ويرى أن المطالب السياسية المرفوعة منذ شهرين من أجل تحقيق تغيير جذري، هي صوت جماعي يترجم التحولات العميقة والصامتة على مدار السنوات الماضية، ويعتبر المؤسسة العسكرية رفيقا مهما في تحقيق الانتقال السياسي، وليس فاعلا لتجديد النظام السياسي أو توجيه الهبة الشعبية إلى مسارات معينة.
الجزائر- علل رئيس حزب جيل جديد المعارض جيلالي سفيان، في لقاء مع “العرب”، الحالة اللافتة التي تعيشها بلاده منذ شهرين، بعدة تفاسير تتمحور حول دخول الشارع الجزائري في صلب المعادلة السياسية بعد الإقصاء والتهميش الممنهج له من طرف السلطة، واكتفاء الأخيرة بالتعاطي مع معارضة سياسية فرضت عليها ممارسات الضغط وتقليص هامش تحركها، مما أبقاها (السلطة) سيدة واحدة ووحيدة في المشهد.
وشدد سفيان على أن الشعب هو السيد وحده في الساحة الآن. ودخوله المشهد غيّر الكثير من الموازين، وفرض إلغاء الانتخابات الرئاسية، وأجهض مشروع العهدة الخامسة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في مهدها، وأسقط حكومة أويحيى، فضلا عن إثارة التضارب والصدام داخل الأذرع السياسية للسلطة. وبالتالي، فهو قد أطاح بالنظام السياسي القائم رمزيا وسياسيا وأخلاقيا، ولو بقيت السلطة قائمة، لتم ذلك في شكل سلطة إدارية وأمنية وفقط.
وأضاف المعارض السياسي الجزائري أن نهاية النظام لا تعني سقوط الدولة. والمعارضة أصبح لها مطلب واحد هو الاستماع إلى صوت الشارع الداعي لرحيل السلطة وتنحي بوتفليقة، والتحضير لمرحلة انتقالية بخارطة طريق واضحة، مع تنظيم انتخابات في أفق مقبول بوسائل وآليات جديدة، تضمن للجميع النتائج الحقيقية، وبهذا قفزت الجزائر قفزة كبيرة جدا، ونحن في طريق التفوق التام على السلطة، وما بقي ما هو إلا محاولات ثانوية للخروج الآمن.
واعتبر حالة الانسداد القائمة رغم تعدد المقاربات المطروحة لحلحلة الأزمة، أمرا طبيعيا، بالنظر لعدم انتظار رفع السلطة للراية البيضاء والانسحاب من المشهد بسهولة، فهناك محاولات صمود أو مقاومة، عبر ربح الوقت والتسويف، لكن لا بد من الاعتراف بأن هناك نوعا من المفاوضات على الهواء الطلق، فالشعب يعبر عن مطالبه في الشارع وطرح أفكاره، والسلطة تقدم بالمقابل خرائطها.
وذهب سفيان إلى أبعد من ذلك لما كشف في شعاراته عن الكيفيات التي يتيحها لها للانسحاب، وتصميمه على إعلان قيادة جديدة للبلاد تكون نابعة من إرادته. واستطرد مشيرا إلى أن السلطة بطبيعة الحال تحاول ربح الوقت، وقدمت خارطة طريق ظهر عدم إمكانية تجسيدها، فقد بقي حوالي شهر على نهاية عهدة الرئيس، وبعد ذلك يحدث الخروج التام من أحكام الدستور. وفي هذه المرحلة ستشهد الجزائر نهاية هذا التفاوض المباشر والميداني، وحينها سيفرض ثقل الشارع وتوحد مطلب المعارضة، مرحلة انتقالية برئيس أو هيئة رئاسية تسير الوضع لمدة قصيرة، والذهاب إلى انتخابات رئاسية في إطار شفاف.
مبادرات المرحلة الانتقالية
بشأن خطر التصادم بين المبادرات وتحولها إلى ورقة اختراق السلطة للحراك الشعبي، قال جيلالي سفيان إن حزبه (جيل جديد) كان أول من قدم اقتراحات الخروج من الأزمة. واعتبر تعدد المبادرات والأطراف الراغبة في تقديم رؤيتها لحل الأزمة، إثراء للنقاش، مما يمكّن الشارع من الاطلاع على أكثر من تصور، وتتسنى له المقارنة والتقييم والقدرة على تجاوز المرحلة.
ووصف مبادرته بـ”المتماهية” مع اهتمامات الشارع، لأن الحوار الأولي بين السلطة والمجتمع (أحزاب وجمعيات ونقابات وناشطين) حول تكوين لجنة لرئاسة البلاد بعد 28 أبريل مقابل تنحي رئيس الجمهورية في المهلة الشرعية، أفضى إلى نوع من التناغم حول التصور من داخل السلطة، ثم إن اقتراح “التوصل إلى شخصية توافقية، أو لجنة لإدارة شؤون البلاد، بتعيين حكومة غير متحزبة والدخول في حوار مع الطبقة السياسية لتحضير آليات تنظيم الانتخابات بعد مدة معينة، قاد إلى تبني أحزاب سياسية لهذا الموقف”.
ونفى إمكانية إتاحة عامل تعدد المبادرات فرصة للسلطة من أجل المناورة أو الالتفاف، مشيرا إلى أن هذه الحجة سقطت بصفة آلية في نهاية الأمر، لأن غالبية القوى السياسية متفقة على هذا التصور، بدليل الموقف المؤيد لتكتل قوى التغيير. والتعدد يوحي في البداية إلى ذلك، لكن في النهاية النقاش المفتوح سيؤدي إلى بلورة خطة موحدة، والسلطة ليست لها أي حجة إلا مصلحتها الخاصة، وستذعن للأمر الواقع تحت ضغط الشارع والفراغ الدستوري، وإلحاح المعارضة سيضعها تحت الأمر الواقع.
وفيما اعترف جيلالي سفيان بأنه لم يكن يتوقع هبة الحراك الشعبي بهذا الزخم والشكل، أشار إلى أنه عبر عنه في دراسة تحليلية للمجتمع الجزائري الحديث العام 2017 في كتاب “المجتمع الجزائري.. صدمة الحداثة وأزمة القيم والمعتقدات”.
وعرج على موقفه المعلن عنه منذ عام، بمناسبة الذكرى السابعة لتأسيس الحزب، حيث تم التوجه برسالة إلى الرئيس بوتفليقة، تقضي بعدم خوض العهدة الخامسة، وتم عرضها على الشركاء السياسيين وعلى الرأي العام، ثم تم تأسيس حركة مواطنة بمعية أحزاب سياسية وشخصيات مستقلة، والشروع في حملة جوارية لشرح برنامج المبادرة.
وأشار إلى ذلك بقوله إن الجزائريين خرجوا في 22 فبراير بعدد وأسلوب احتجاجي لم يكن أحد يتوقعهما. الحراك جسد حدسا كان في دواخل الجزائريين، وهو ما تضمنته الدراسة التحليلية للمجتمع الجزائري، والتي خلصت إلى أن المجتمع الجزائري تغير، وهنالك جيل جديد بصدد التموقع في المجتمع، وعلى هذا الأساس أطلق جيلالي سفيان على حزبه تسمية جيل جديد في 2011.
قوة الحراك الشعبي
ذهب جيلالي سفيان في تحليل ظاهرة الحراك الشعبي في الجزائر، إلى أن التغيير السوسيولوجي أعمق بكثير من التغيير السياسي، متحدثا عن تغيير أنتروبولوجي أقوى، سيؤدي لتغيير سياسي كنظام وكطبقة سياسية، معظمها مرتبط بالمخيال القديم، وتحتكم لآليات وتحليل مرتبط هو الآخر بحقب سابقة تعود للتسعينات وربما للسبعينات والثمانينات.
لذلك أصبحت الطبقة السياسية منتهية الصلاحية بسبب وقوعها تحت أَسْر الماضي، فتفكيرها مرتبط بالماضي وليس بالحاضر. وهذا لا ينفي أن هناك من النخب من واكب التغيرات، رغم أنها في وقت ما شعرت بغربتها في مجتمعها إلا أنها الآن هي في صلب عملية التغيير.
وفي رده عن سؤال حول علاقة مفترضة بين حراك الجزائر وموجة الربيع العربي، اعتبر أن المسائل متشابكة، لأن الربيع العربي في 2011 كان عبارة عن هزة سياسية في المنطقة، تتشابه مع ما عاشه الجزائريون في حقبة التسعينات، وهي مرحلة شهدت حالة صدمة بين القيم القديمة السائدة وبين قيم جديدة أدخلت بقوة في المجتمع (الإسلام السياسي).
وأضاف سفيان أن الجزائر عاشت هذه المرحلة قبل دول المنطقة العربية، لعدة اعتبارات يمكن اختصارها في الموروث الاستعماري، والقرب الجغرافي والثقافي من الغرب، في حين تأخر الصدام في المنطقة العربية لغاية العام 2011، بما حمله من عنف ودموية.
وذكّر بأن بلاده خرجت من مرحلة الصدام بين المشاريع إلى مرحلة الحداثة ولكن بهوية جزائرية خاصة بها وليست غربية، لأن الحداثة ليست بالضرورة هي المفهوم الغربي النمطي. وما تعيشه الجزائر الآن هو قطع مع منظومة قيمية وسياسية قديمة، وتأسيس لمجتمع أكثر تفتحا وتمدنا، وقليل من المعتقدات اللاعقلانية.
وعن مسألة مواكبة النخب لمنسوب الوعي الجمعي، أكد رئيس حزب جيل جديد أن المسيرات الشعبية السلمية والهادئة، تشارك فيها جميع الفئات وبشكل كبير الشباب والنساء، ولم يحدث في تاريخ البلاد حراك شعبي مماثل، ولو أنه يتوجب أخذ الكثافة السكانية بعين الاعتبار، ففي مسيرات ديسمبر 1960 (حقبة الاستعمار) كانت المسيرات قوية وكثيفة رغم أن تعداد الجزائريين لم يكن يتعدى الثمانية ملايين نسمة.
ووصف الحراك الجزائري بأنه ظاهرة غير مسبوقة في العالم، فلا يحتفظ المؤرخون بمسيرات شعبية فاق السائرون فيها الـ20 مليون فرد، وحتى في باريس التي تعيش مظاهرات السترات الصفراء منذ عدة أشهر كان عدد المتظاهرين الجزائريين في ساحة الجمهورية يقارب الـ30 ألف متظاهر، ومع ذلك لم يسجل لا عنف ولا تخريب، وفي كل المدن والعواصم العالمية كان الحراك الجزائري حاضرا، لذلك تصوب نحوه مجاهر التحليل والفهم.
وخلص إلى أنه يتوجب على النخب السياسية أن تكون في مستوى هذه الرسائل السياسية والتحولات الاجتماعية، واعتقد أن الأسابيع القليلة القادمة ستدخل الجزائر في تغيير سياسي كبير، ولو أنه لا يجب نفي مفعول وثقل الماضي، والنظام السياسي سيلعب أوراقه لصد هذا التغيير.
وتوقع جيلالي سفيان دخول البلاد في تغير تدريجي ويحتاج إلى خمس سنوات أو أكثر، لبروز طبقة سياسية في مستوى حراك الشعب، واعتقد أن هذا مسار طبيعي لأن النخب السياسية لا تخلق بين لحظة وأخرى.
حقبة العشرية الحمراء
حول سؤال عن كيفية تجاوز الجزائريين لمفعول حقبة العشرية الحمراء ونماذج الربيع العربي في سوريا وليبيا، رأى المعارض الجزائري أن هذا هو سر الاهتمام العالمي بما يدور في الجزائر، وهناك جدلية الواقع والتفكير في تاريخ الأمم، فمن بشاعة المستعمر ولدت حرب التحرير، وجربت محاولات التغيير بعد الاستقلال لكنها وصلت إلى طريق مسدود، وتكررت المحاولة في حقبة التسعينات وانتهت إلى العنف.
واعتقد أن تراكم هذه التجارب والخبرات لدى الأجيال يكسب الشعب حصانته، وهذا الجيل تعلم من تجارب الماضي ومن تجارب المحيط، ولذلك انتصر على الجميع بورقة الحراك السلمي والهادئ، وأدرك أن الخبرة الحقيقية هي التي لا تصيبك بالعجز بل هي التي تدفعك لتجاوز الأخطاء والاستفادة منها، والعبرة في الخروج من الألم بالأمل.
وفي قراءته للتشكيل المفاجئ لوعي الشباب الذي كان عازفا عن الممارسة السياسية، فقد شبهه بالعرض المسرحي لما يكون سحب الستار بالنسبة للمتفرج اكتشافا لعالم آخر على الركح، يحيله آليا إلى الاستنتاج بأن ذلك الستار كان يخفي تفاعلا وحركة وراءه، فقبل 22 فبراير كان الجميع يعاتب وينتقد الشعب على تخلفه وخنوعه، والحقيقة أن ذلك هو الشعب الذي كان يعيش تفاعلا مخفيا، وأزاح الحراك الستار للرأي العام في اليوم المذكور، والمسألة لا تتعلق بلحظة آنية بل بسنوات من التفاعل المخفي.
وأوضح أنه لو كانت السلطة واعية وأدخلت إصلاحات حقيقية خلال العهدة الرابعة، لا أحد كان سينتبه لهذه التغييرات، لأن ورقة الفعل السياسي ستكون غائبة، ولا يدفع الشارع للانتفاضة السلمية، لكن الاستفزازات وحماقات السلطة دفعت التغيير للتعبير عن نفسه في شكل حراك سياسي كشف عن بواطن التحولات السوسيولوجية.
دور الجيش
بشأن دور المؤسسة العسكرية في المشهد الجزائري يرى جيلاني سفيان أن حزب جيل جديد تناول دور العسكر منذ مدة، وخاطب مباشرة رئيس الأركان لوقف دعمه للنظام السياسي، لأنه كان يرى أن المؤسسة منحازة للسلطة، ولأنها هي من اختارت هذا الرئيس، ولها مسؤولية كبيرة في بقاء هذا النظام، فإنه بات لزاما عليها رفع يدها عن السلطة ومرافقة إرادة الشعب لتحقيق الانتقال السياسي.
الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي لها مصداقية ولها كفاءات وانضباط، ودوره ليس التدخل المباشر لتحمل مسؤولية سياسية، فذلك مرفوض بالمطلق، لكن ونظرا لدوره التاريخي ولتركيبة الدولة، فلا أحد ينكر تأثيره في القرارات الإستراتيجية، وهو شيء مبرر، وقياسا بالأوضاع الإقليمية الحساسة، فإن جل الأحزاب تفكر في دور مرافق للجيش وليس لفرض أي تغيير أو توجه معين، عبر أداء دور الحكم المحايد في الاستقطابات الممكنة وتقديم ضمانات في الهيئة الانتقالية وخارطة الطريق، والحماية من انحراف أي سلطة عن التزامات الإجماع.
وعن العلاقة غير الودية بين حزبه والتيار الإخواني، أشار رئيس حزب جيل جديد إلى أن تكتل تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي منذ 2014، عمل على تجاوز الخلافات الأيديولوجية والوصول إلى موقف سياسي موحد للضغط على السلطة، من أجل الوصول إلى ممارسة ديمقراطية وليس لمكاسب أو مناصب، لكن بعض الإخوان كانت لهم حسابات لمصلحة أحزابهم وتيارهم، وهو ما تناقض مع مبادئ حزبه المرتبط بالتحليل الأكاديمي وليس الآنية والمصالح الضيقة.
وأضاف أن التيار الإخواني أسير عهد مضى، وتفكيره ليست له علاقة مع الحاضر، ومشكلته أن له باطنا يظهر للكثير ما هو مغاير للظاهر، ولم يدرك التحولات الاجتماعية، فضلا عن أنه تيار مرتبط بفكر متحجر لا يوصل إلى أي نتيجة أو يواكب أي تطور.
واستطرد موضحا أن الظاهر الآن أن هذا التيار يحاول ركوب الموجة، لكن خطاباته المتغيرة حسب المعطيات والإفرازات ضيعت عليه البوصلة، لأنه يفتقد لمبادئ سياسية واضحة، فتفكير قادته لا يزال قائما على دار الإسلام ودار الحرب، ويعتقد أنه صاحب الحق لما يتعلق الأمر بالآخر، وهذا التلاعب لا يفيد في شيء.
وتابع مشيرا إلى أن الدول التي تتبنى هذا التيار أو غيره، لها مصالح مادية موضوعية، تحاول من خلال مشاعر وأيديولوجيات عبر امتدادات لها داخل دول أخرى الحفاظ على مصالحها المتنوعة، وتجد في الغالب أناسا سذجا يمكن شراء ذممهم بامتيازات معينة، وهذا لا يمكن أن يجد مكانه في المجتمع الجزائري، لأن منسوب الوعي والتحول تسامى على مثل هذه المشاريع.
الاستقطاب بين الحراك والسلطة
حول حالة الاستقطاب بين الحراك والسلطة، وعدم بروز قيادة ميدانية لحد الآن رغم مرور ستة أسابيع، أشار سفيان إلى أن الذي أشعل فتيل الحراك واستدعى حالة الوعي غير المسبوق لدى الشارع، هو الإهانة غير المقبولة للعهدة الخامسة، خاصة وأن العالم صار في وقت ما ينظر باستهتار لما يقع في البلاد، والجزائريون رفضوا التلاعب بالدولة أو تقديم صورة مسيئة لهم، وهو الأمر الذي وحدهم على ضرورة القطع مع هذه السلطة.
ولفت إلى أنه “في هذه الحالة، الشارع ليس في حاجة لمن يمثله أو يتفاوض باسمه، وهو الآن يأمر بالقطيعة، ويعتقد أن من يمثله هو من يظهر في المواعيد الانتخابية لبناء مؤسسات شرعية جديدة، ومع هذا فإن تمدد الوضع والإطالة فيه قد يؤثران عليه، بسبب جهود التغلغل والتفكيك، وتحريف المطالب قد يدفع به إلى الانزلاق، ولذلك فإن الجيش يتحمل مسؤوليته في الحفاظ على الوضع والتسريع في وتيرة الانتقال، والشارع ينتظر رسالة واحدة وبسيطة تنهي حكم بوتفليقة، وتسليم المأمورية لمن يثقون فيهم لبناء جمهورية ثانية”.
وبشأن ثلاثي المرحلة الانتقالية (الأخضر الإبراهيمي ونورالدين بدوي ورمطان لعمامرة)، ودور الأخير في تسويق خارطة طريق السلطة، رأى جيلالي سفيان أن الأمر يتعلق بمحاولة أولى للنظام السياسي من أجل البقاء، لأن الرئيس لما أدرك استحالة المرور للعهدة الخامسة، حاول البقاء بتمديد عهدة رابعة، ولخضر الإبراهيمي فشل في اتصالاته واعترف بعدم قدرته على ترميم الوضع، وبدوي لم يقدر على تشكيل حكومة جديدة إلا بكوادر في دوائر وزارية، ولعمامرة صار منبوذا حتى في الخارج، بدليل التوضيحات التي أعقبت جولته الدبلوماسية من طرف المسؤولين الروس، ورفض استقباله من طرف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وحمل جيلالي سفيان مسؤولية ظهور ما بات يعرف بالقوة غير الدستورية للرئيس بوتفليقة نفسه، واعتبر أن المسألة بدأت بالاستحواذ التدريجي على سلطات الرئيس، ولكن مسؤوليته في ذلك ثابتة، فهو ما كوّن هذه المجموعة وقربها منه ومن مصادر القرار والنفوذ، وأدخل العائلة في تسيير دواليب الدولة، وتوظيف المؤسسة العسكرية في صالح النظام، مؤكدا في ختام حواره أنه دون مساندة الجيش لما كان قادرا على الاستمرار، واعترافات بعض الموالين السابقين للسلطة تثبت حالة الكذب وانتحال الصفة وتغليط الرأي العام.
حراك الشارع يترجم التحولات العميقة في المجتمع الجزائري

استشرف جيلالي سفيان في كتابه “المجتمع الجزائري.. صدمة الحداثة وأزمة القيم والمعتقدات”، الصادر سنة 2017، الأحداث التي تعيش على وقعها الجزائر اليوم، وإن اعترف بأنه لم يكن يتوقع أن تكون هبة الشارع بهذا الزخم والشكل.
وتوصل سفيان إلى تلك النتيجة بناء على ما رصده من تحولات تطرأ في صمت على المجتمع الجزائري. وأشار إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بمعارضة رئاسة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، بل كانت العهدة الخامسة هي القطرة التي أفاضت الكأس وفجرت ما كان يعتمل في العمق الجزائري.
ورصد الكتاب ظهور جيل جديد بصدد التموقع في المجتمع، يدفع نحو ميلاد حراك يرفض الأبوية السياسية وعلاقة القوة مع الإدارة والسلطة، ويحتاج إلى اعتراف بكيانه الفردي، الذي خرج من النمط القديم، أين كان في هياكل تقليدية تغرق الفرد داخل الجماعة.
وأشار جيلالي سفيان إلى أنه تم رصد قيم أنتروبولوجية ومعادلة هوياتية جديدتين، وضعف ملحوظ للأيديولوجيات، ولو أنها لم تختف لكنها تقلصت داخل العمق النفسي للفرد الجزائري، فضلا عن أخذ العنصر النسوي لدور غير منتظر مقابل ترهل الطبقة السياسية التي تعيش رهينة الماضي.