أفريقيا تقتحم "ديوان العرب" وتنهي احتكارهم للشعر الفصيح

وصول شاعرين من السنغال ومالي إلى المرحلة النهائية من مسابقة أمير الشعراء، وتجارب شعرية تطوع الصوفية والتراث وتشكل صورا غير مألوفة للطبيعة والبشر.
الثلاثاء 2019/04/02
عبدالمنعم حسن محمد ومحمد الأمين جوب صوتان شعريان يكتبان أفريقيا بالعربية

لم يعد الشعر العربي الفصيح قاصرا على أبناء المنطقة العربية، بعدما دخل إلى بحوره شعراء جدد من أفريقيا جذبتهم لغة الضاد، فعشقوا مقومات صناعة أدبها، وبرعوا في كتابة الكلام الموزون المقفى، والمليء بجماليات فنية تكثر فيها الاستعارة والأوصاف دون إغفال النظام الإيقاعي لتفعيلاته ومعانيه الخصبة. “العرب” توقفت مع شاعرين من مالي والسنغال تمكنا من بلوغ المرحلة النهائية من برنامج “أمير الشعراء” في استجلاء لعوالم الشعرية الأفريقية.

أبوظبي – كسر وصول شاعرين من السنغال ومالي إلى المرحلة النهائية من مسابقة أمير الشعراء التي تنتجها لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي، الاحتكار العربي للشعر، ديوانهم الذي حفظوا عبر وعائه تجاربهم الإنسانية وحكمتهم في الحياة ومعارفهم وتاريخهم المجتمعي.

وصل الشاعران محمد الأمين جوب من السنغال، وعبدالمنعم حسن محمد من مالي، إلى المرحلة النهائية بالموسم الحالي لمسابقة أمير الشعراء، بعد تفوقهما على 150 شاعرا، وتسجيلهما أعلى درجات من اللجنة المحكمة في الجولة قبل الأخيرة بـ27 و26 درجة على الترتيب، متقدمين على منافسين من مصر والإمارات والسعودية.

ربما ينبع النجاح الذي سجله الشاعران من كسر الاعتياد الذي أصاب جماليات الشعر الفصيح وتشبيهاته لقدومهما من بيئة بكر تجمع مزاوجة غريبة من فحيح الصحراء وطقطقة أشجار الغابات وأصوات المطر والرعد الممزوجة بهمسات الطيور وهمهمات الحيوانات، لترسم صورة سماعية ومتخيلة لأماكن لم يصادفوها من قبل.

يقدم الشعر الأفريقي المكتوب بالعربية رقصة غير معتادة، فيدور في مساحات نفسية ضيقة لكنها تتسم بالثراء في وقت واحد، يغلب عليه نزعة صوفية تجعل إيقاعه أشبه بالهزات الصعودية العنيفة أو تجديد أوضاع الكلام وسياقاته، فالمرأة عندهم ليل وليست شمسا، والرجل وعل عنيد وليس فارسا شديد البأس، كما اعتاد العرب.

يميل الشعراء الأفارقة الذين شاركوا في جميع مواسم أمير الشعراء إلى التماس مع الصوفية، ربما عن اقتناع أو كوسيلة يقتربون بها من جمهور تسحره سلالم الصعود إلى العشق الإلهي، ومناغاة الحب الطاهر المنزه عن المشاعر الحسية المجردة، وما يضمه من ألفاظ شفافة وغزل عفيف لا تحكمه المصلحة، وإعادة استكشاف الروح وصولا إلى السكر الصوفي والتجلي.

تعلم الشاعر السنغالي محمد الأمين جوب (26 سنة) الذي ولد في داكار وينتمي إلى أسرة مهتمة باللغة العربية، في كتاب والده وحفظ القرآن على يديه ثم محضرة (حضرة الصوفية) جده الكبيرة في العاصمة القديمة سان لويس والتي يتوافد إليها الأهالي للتعلم، وخاله الذي يدرس الفنون الأدبية الذي كون له مكتبة مجانية وفتح ذهنه وعينيه على سحر اللغة والتغني بها وإنشادها.

تنتشر الطرق الصوفية في الكثير من دول أفريقيا، فالتقديرات تصل بعدد أتباع طرقها مثل التيجانية والقادرية والبرهانية إلى قرابة مئة مليون شخص مريد.

تشتهر الحضرة في دول غرب أفريقيا بفعاليات من قصائد العشق الإلهي والمديح، فشيوخ الصوفية كانوا أول من أنشأوا المدارس العربية التي يتحدث بها نحو 35 بالمئة من أهالي السنغال وتعلمها نحو ألف مدرسة في مالي.

لواء التجديد

قال جوب لـ“العرب” إن الشعوب العربية لا تعرف كثيرا عن بلاده وتعتقد بأنها تفتقر إلى التذوق الشعري، رغم ضمها المئات الذين ينظمونه بجميع الأشكال الأدبية والأنماط الكتابية وباللغات المحلية والعربية والفرنسية والإنكليزية، ولم يسلط عليهم الضوء، لكنهم ربما يشاركون في المواسم القادمة من أمير الشعراء ويضعون بصمتهم في الشعر العربي.

يعتبر الشعراء الأفارقة أنفسهم من حاملي لواء التجديد في الشعر الفصيح، فلا يجدون فرقا بينهم وبين العرب. منبعهم الفكري هو القرآن الكريم، ويحفظونه في المراحل العمرية المبكرة، عبر الكتاتيب والمدارس الدينية، ولغاتهم المحلية متأثرة بالعربية ومتداخلة معها بشكل كبير، لذلك لا يوجد فارق كبير بينهم.

من المفارقات أن شعراء السنغال بالعربية أكثر من الفرنسية، وهي اللغة الرسمية، لتضم أجيالا متعاقبة من ناظمي الشعر بداية بالرعيل الأول مثل مجختي كالا وأحمد بامبا ومالك سي ومحمد الخليفة وإبراهيم نياس والهادي توري وأحمد عيان سي، ومن المعاصرين مثل تيجان غاي وأحمد محمد جيي، وبعضهم يحمل لقب شعراء عظام كأمينة سيسيه الخنساء.

تأثرت اللغة الغولوفية المحلية بقوة بالعربية، فبات شعراء السنغال قادرين على كتابة قصائد كاملة بكل البحور الخليلية، باللغتين المحلية والعربية، لكن الأبرز منهم ربما استقاها من منبعها الأصلي عبر السفر والدراسة، خاصة  في السعودية.

الشعر الذي يكتبه الأفارقة مدفوع برغبة في تقديم شعوبهم إلى مواطن ثقافية أخرى وكسر الصورة النمطية عنهم

وحصل الشاب جوب، الذي يحرص على ارتداء الزي المحلي التقليدي، على منحة دراسية إلى المغرب ليدرس المرحلة الثانوية والجامعية وصولا إلى مرحلة إعداد الماجستير في العربية بجامعة محمد الخامس بمدينة الرباط، وبدأت محاولاته الأولى لكتابة الشعر عام 2011 ووصل إلى مرحلة الاحتراف بعدها بست سنوات كاملة.

يبدو الشعر الذي يكتبه الأفارقة مدفوعا بطموح في الرغبة في تقديم شعوبهم إلى موطن الثقافة الأم وكسر الصورة الذهنية النمطية عن كونهم أمما لا تنظم شعرا ولا تكتب أدبا. كلماتهم وحروفهم الهائمة في الهواء تنتظر من يلتقطها ويجمعها في سياق واحد، أو من يستطيع استكشاف موطن جمال كل كلمة منفردة ويضعها في شطر تكون بدورها أبياتا وصولا إلى القصيدة في صورتها النهائية.

يؤكد محمد جوب لـ“العرب” أنه اتخذ جميع الاحتياطات التي تضمن الفوز بمغامرته الأدبية التي تتسم بالتحدي، ولم ينس أن أستاذه في الثانوية اعتبر ما يكتبه ليس شعرا، لكنه لم ينتظر التشجيع ولم يلتفت إلى الإحباطات، واقتنع بأنه سيكون شاعرا، وغير طريقة كتابته ليتحرر من عباءة الكلاسيكية القديمة إلى طريقة حداثية تناسب أمير الشعراء.

على عكس الشعراء العرب الشباب الذين يميلون لتقديس رموز شعرية بعينها، يحمل السنغالي جوب قدوة متغيرة، فيقرأ للجميع وحينما يتولد لديه اليقين بقدرته على الكتابة يفكر في نموذج يجمع مدارس متباينة، و”يعتبر أبا الطيب المتنبي سلطانا في الشعر، ولا يمكن أن يهز عرشه أحد”.

تشي مشاركات الأفارقة في مسابقة أمير الشعراء بأن اقتناصهم اللقب ربما مسألة وقت، فمعدل تهافتهم على دراسة العربية والاستقاء من أدائها يقابله في الوقت ذاته عزوف عربي عن الاهتمام بها، وانتشار لمدارس اللغات الأجنبية التي تجعلها لغة ثانية وتخرج أجيالا أكثر تمسكا بثقافات الغرب وآدابه.

طوفان المفردات العربية في اللغات الأفريقية يخلق أجيالا من الشعراء تجري في دمائها روح المغامرة بحكم وراثة أجيال تمتعت بالطبيعة وحاربت غدرها في آن واحد، وتنتقل إلى الشعر ليبدو الأمر كما لو كان تيارا جديدا أو مدرسة في طور التشكل تجمع بين الرومانسية والطبيعة والروحانية.

ويحضر التراث الصوفي بقوة في قصائد الشاعر المالي عبدالمنعم حسن محمد (32 عاما) وهو الذي ينتمي إلى مدينة تمبكتو، والتي تنتشر فيها اللغة العربية بشكل واسع، لكنه قضى وقتا طويلا في تعلمها في مكة ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث لم يكمل دراستها، وعاد إلى بلاده قبل خمس سنوات.

اتخذ عبدالمنعم أمير الصعاليك عروة ابن الورد مدخلا إلى الجمهور العربي في اختيار ذكي لشخصية تعتبر المعادل المحلي لأمير اللصوص (روبن هود)، ما منحه مجالا لاقتحام قضايا العدالة الاجتماعية والفقر والظلم، ومواجهتها بنظرية روحية تعتبر العدل قبسا من نور الله على الأرض والظلم ستارا يحجب شعاع شمسه عن الوصول.

يزاوج الشاعر المالي بين طبيعة بلاده بسحرها البكر والتراث العربي والقضايا الدينية في مزيج واحد ما يمنحه خصوبة في التشبيه والاستعارة، وفي إحدى قصائده اختار قصة ملكة سبأ المليئة بعالم الخيال والقوى غير المنظورة، لمنح نفسه تعابير موسيقية فضفاضة تناغم جمال اليمن القديم وتغيرات الطبائع من الشرك إلى التوحيد.

يكشف حديث عبدالمنعم مع “العرب” أنه استفاد من تجارب الأفارقة السابقين وحفظ أسماءهم ومراحل وصولهم، وفي مقدمتهم ابن بلده علي جبريل، الذي لم يصل إلى المرحلة النهائية في مشاركة سابقة، لكنه قدم قصيدة وجودية عن تائه في ملكوت الله يأمل في الوصول إلى الرضا، ونبع الحياة بصور من التشبيهات شديدة التفرد.

حضور متعاظم

يتقدم الأفارقة نحو المراحل النهائية في مسابقة أمير الشعراء باطراد، ففي الموسم الخامس قدم عبدالله موسى بيلا من بوركينا فاسو قصيدة لاقت ثناء عن قراءة فلسفية عميقة لباطن شاعر يغوص في أسرار الكون، في رحلة صعود ضمت بين طياتها تناقضات الملائكة والشياطين والجنان والنار والخير والشر.

ويوضح عبدالمنعم لـ“العرب” أنه يعمل في مجال المقاولات ببلاده التي ليست ببعيدة عن الشعر فكلاهما يعتمد على البناء، سواء بالألفاظ والأبيات أو عناصر الأرض وطينها وصخورها، وفتحت تعليقات اللجنة المحكمة وانطباعاتها مدى واسعا أمامه للتوقع، للوصول إلى لقب أمير الشعراء رغم المنافسة الشرسة.

غرام بعض أبناء القارة السمراء بالشعر العربي ليس أمرا مفاجئا، فدماؤهم المختلطة مع العرب نظمته منذ العصر الجاهلي

يكتب الشاعر المالي أشعارا منذ 12 عاما فقط وينشرها في الصحف والمجلات الناطقة باللغة العربية في بلاده، ولديه ديوان مخطوط ربما ينشره بعد المسابقة، ولا يعد الأمر غريبا على مدينته التي تضم جامعة “محمود كات” التي تعتبر من أقدم الجامعات المهتمة باللغة العربية والدراسات الإسلامية بأفريقيا.

يشير عبدالمنعم لـ“العرب” إلى أن بلاده مالي ليست بعيدة عن العربية، فمن الشائع أن يصادف أي زائر بسطاء يتحدثون بها في الشوارع والأسواق، بفضل المدارس الدينية الابتدائية التي كانت في البداية تحت إشراف جماعات خيرية عربية من خارج مالي، لكنها بدأت تنخرط تحت التعليم الحكومي.

ويلفت إلى أنه غارق في شاعرية بلاده بأشجار المانجو التي تملأ الطريق المؤدي إلى حدودها مع ساحل العاج، وأضواء السماء في المساء التي تشبه قناديل الله الساطعة، والسحر الطاغي في تحديق النسور، والرماح المنهكة من قتل الأقمار والآيائل وأفيال السافانا، والأرض الطفلة التي تسبح في جسده فينقلها إلى تراكيب لغوية.

لا يمكن وصف غرام بعض أبناء القارة السمراء بالشعر العربي بأنه أمر مفاجئ، فدماؤهم المختلطة مع العرب نظمته منذ العصر الجاهلي، فعنترة بن شداد، أمير العاشقين، لم يكن إلا نتاجا لذلك التزاوج بين أب عربي وأم أفريقية، وهو نفس الامتزاج الذي سجله ألكسندر بوشكين، أبو الأدب الروسي، الذي يحمل دماء أفريقية من جد حبشي مختطف.

15