العالم غافل عن تداعيات زحف الآلات لشطب أدوار البشر

كيف يمكن أن نطارد هدفا يبتعد بسرعة تفوق سرعتنا بعشرات المرات؟ تلك هي معضلة المنظومات السياسية والتنظيمية الدولية مع سرعة زحف الأتمتة والتشغيل الآلي والذكاء الاصطناعي، التي أصبح لها إيقاعها ومنظوماتها الذاتية المستقلة.
يمكن القول ببساطة إن جميع الدراسات والتحذيرات وبضمنها هذا التحليل، لا يمكن أن تلم بجميع العواقب الاجتماعية والنفسية والصحية، التي هي أكبر وأخطر بكثير من مجرد فقدان الأدوار والوظائف التي اعتاد البشر على القيام بها.
إحدى الخلاصات التي سيصل العالم إليها متأخرا، هي أننا في سفينة واحدة وينبغي التوجه إلى تقارب شامل وسياسات مركزية موحدة لمنعها من الغرق في ظل تناقض وتصارع سياسات الدول حاليا.
لم تعد جميع الفلسفات السياسية والاقتصادية التقليدية مثل الرأسمالية والاشتراكية والليبرالية الجديدة وحتى مفاهيم العولمة صالحة للتعامل مع التغييرات المتسارعة في ظل زحف الآلات لإحالة “جميع سكان العالم” إلى البطالة.
المصنع الذي كان ينتج ألف سيارة بتشغيل ألف عامل، أصبح ينتج 10 آلاف سيارة بتشغيل 10 عمال وقد ينتج مليون سيارة ذاتية القيادة دون تشغيل عامل واحد في المستقبل القريب. ليست تلك الأرقام إحصائية، بل هي افتراضية لها مرادفات كثيرة في جميع أنواع النشاطات الصناعية والخدمية والزراعية، وهو إيقاع عالمي يفرضه التطور التكنولوجي والمنافسة الشرسة بين الشركات.
لن يكون للبشر دور حتى في إنتاج الروبوتات التي ستتولى بنفسها تطوير قدراتها وإنتاج روبوتات جديدة.
قد تنجو بعض القطاعات مثل نشاطات الترفيه والأعمال الإبداعية من الصحافة والفنون لبعض الوقت، لكن البحوث العلمية والتقارير تؤكد أنها لن تكون بعيدة عن الزحف. وهناك اليوم قناة تلفزيونية صينية مذيعوها روبوتات وهناك أعمال فنية ونصوص أيضا من إنتاجها.
وقد تتحول الأفلام والبرامج التلفزيونية إلى شخصيات افتراضية يحركها الكمبيوتر بعد أخذ صور ثلاثية الأبعاد للممثل، وقد يتم الاستغناء عن ذلك بتشكيل كائنات افتراضية لاحقا لخفض التكاليف.
الأسواق تستبدل البائعين بالآلات والقطارات تسير بلا سائق والروبوتات تزرع وتحصد المحاصيل وترعى الماشية، والصحف والمجلات والكتب تباع بشكل متزايد إلكترونيا والمصارف تجري معظم تعاملاتها عن طريق الإنترنت.
أما الطباعة الثلاثية الأبعاد فأصبح بإمكانها طباعة أي جسم مادي، وقد بدأت بطباعة البيوت والعمارات. سوف ترسم الروبوتات تصاميم البيوت والعمارات وتطبعها بآلاف النسخ دون حاجة إلى الأيدي العاملة.
الأمثلة كثيرة، والقاسم المشترك هو شطب المزيد من الوظائف، في وقت تتزايد فيه مطالب الشعوب وغضبها وثوراتها.
وحين تجد الحكومات نفسها في حفرة عميقة في مواجهة البطالة والمشكلات الاجتماعية فإنها قد تضطر لتعميق الأزمة على النطاق العالمي بالتنافس في ما بينها على خفض الضرائب لاستقطاب الاستثمارات، ما يؤدي لتراجع إيرادات الموازنات الحكومية للإنفاق على العاطلين وبرامج الرعاية الاجتماعية.
كيف إذن ستتمكن الحكومات في المستقبل من إعالة معظم سكانها العاطلين وكبار السن، دون فرض ضرائب قاتلة قد تدفع جميع المستثمرين والشركات للهروب إلى دول أخرى؟
في الواقع نرى أن معظم دول العالم تسير مجبرة نحو خفض الإنفاق وتقليل الإعانات وتسريح موظفي القطاع العام وشد أحزمة التقشف، الأمر الذي سيزيد جيوش العاطلين، التي تنذر بحدوث اضطرابات كبيرة.
انفجار معدلات البطالة يبدو حتميا مع تطور التكنولوجيا وحلول الآلات محل البشر، والفجوة بين الأثرياء والفقراء في اتساع متزايد حتما، وسوف تنخفض نسبة الاشخاص الذين تحتاجهم عجلة الإنتاج يوما بعد يوم.
كرة الثلج تتدحرج وهي تكبر يوما بعد يوم، ما دامت جميع حكومات العالم تتسابق مجبرة إلى الهاوية في ذات اللعبة وبقوانينها العتيقة، التي لم تعد صالحة في واقع جديد تتناسل فيه جيوش العاطلين وتتعطل فيه الدورة الدموية للاقتصاد.
ولا يبدو أن أيا من حكومات العالم تدرك اليوم أن المشكلة في تفاقم حتمي ومتواصل، وأن السياسات الاقتصادية الحالية لن تتمكن من إيجاد حلول قابلة للتطبيق، وأن جميع الفلسفات والأفكار الاقتصادية لم تعد تجدي نفعا مع هذا الواقع.
هناك فقط أفكار متناثرة حالمة عن عالم بعيد يكون فيه لجميع البشر دخل أساسي عالمي سواء كانوا يعملون أم لا! لكن التحرك نحو ذلك قد يحتاج إلى عقود أو قرون في ظل الصراعات الاقتصادية والتجارية والسياسية.
العالم بحاجة ماسة إلى فلسفة اقتصادية جديدة، أكبر بكثير من مخاضات ظهور الفلسفات التقليدية مثل الرأسمالية والاشتراكية. رغم أن ظهور تلك الفلسفة قد لا يكون كافيا، إلا إذا حدثت أزمة كبرى تجبر العالم على تطبيقها.
لن تتمكن دولة بمفردها من زيادة الضرائب على الأقلية العاملة إلى مستويات فلكية، لإعالة الأغلبية العاطلة، إلا إذا تزايد تقارب وتوحيد السياسات والضوابط العالمية الموحدة، لتسمح بظهور فلسفة اقتصادية جديدة تطبق على مستوى العالم.
حتى الآن لا يبدو أن هناك ما يمكن مناقشته في أي بلد في العالم لتغيير الاتجاه المستقبلي لارتفاع البطالة على المدى البعيد، والتي ستسير حتما في اتجاه واحد.