مباراة في الفشل

الحياة مليئة بالتجارب، منها ما يستحق النظر إليه بعين العقل والقلب معاً، ومنها ما لا يستحق عناء إلقاء نظرة عليه. صباحكم نجاحات لا تنتهي.
الاثنين 2019/03/11
ضرورة التدرب على فنون الطهي

تجمعات نسائية كثيرة، في أماكن متفرقة، على مستوى الأسر، العائلات، الجيران، العمل، حتى النوادي الرياضية والصحية، وفي انتظار الأطباء، حلقات صحبة النساء دائما ما تتسع وتتزايد الأعداد، تبدأ باثنتين من النسوة ثم يتزايد العدد شيئا فشيئا، لتصبح نسوة المدينة على لقاء دائم، حقيقة غريبة تتعلق بالنساء وحدهن كطرف جاذب لنفس النوع، وبالطبع في الكثير من الأحيان جاذب كالمغناطيس للنوع الآخر.

لكنني هنا أركز في الحديث على التجمعات النسائية الخالصة دون صنف الرجال،  فما إن تتجمع حلقة مصغرة حتى تتسع، يتجاذبن كحال المغناطيس مع رقائق المعدن.

هذه المرة كان الحديث مختلفا للغاية، كنت أتحدث مع زميلتي الصحافية في استراحة سريعة لارتشاف القهوة عن بدايتنا الزوجية وكيف كانت صعوبة الحياة وقسوتها الأولى، فهكذا دائما البدايات مريرة، ومرهقة.

قالت: لم أكن أجيد الطبخ مطلقا، كان زوجي بطلا حقيقيا وجنديا مجهولا لبطولاتي التي لا تنتهي بالنجاح مطلقا في المطبخ، ساعدني كثيرا بتقبل ما أطبخه، مرة بالقبول الحسن والشكر أيضا وكأنني قمت بعمل بطولي رائع، أو قدمت له وجبة دسمة مشبعة، وأخرى بالرفض الراقي، وثالثة بمداعباته اللذيذة، واصطحابي لتناول الطعام خارج المنزل كثيرا. كانت هديته الأولى لي كتاباً ضخماً في فن الطهي وأصول صناعة الحلويات والمخبوزات، ولما رأى الخجل يطل من عينيّ، وواريت وجهي منه احمرارا، ابتسم، وقال هذا الكتاب ليس لتعليمك فن الطهي يا حبيبتي، وإنما لتكتبين كتابا أفضل منه في ما تناولناه معا من يديك!

كانت مداعبته بمثابة حائط منيع أستند إليه دائما بفخر، وأكثر ما يقذف السعادة في قلبي ويطيرني فوق السحاب، امتداحه لأطباقي أمام أهله، ثقته ودعمه جعلاني أبذل أقصى ما أستطيعه لإرضائه، تعلمت حتى أصبحت بعدها من أشهر نساء العائلة في الطبخ، بل وأصبحت أشتهر بأصناف بعينها، يهاتفني كثيرون للتعرف على سر وصفتها، حتى على مستوى العمل دسست أنفي في صفحة الموضة والطبخ، وصارت لي صولات وجولات ناجحة تعوض فشلي السابق.

أما صديقتنا التي يحتوي بيتها ابنتين وصبيا، فتضحك معترفة بفشلها الأولي في إعداد وجبة الأسماك لزوجها المحب للمأكولات البحرية، بعد أسبوع واحد من الزواج، أخرجت السمك المجمد المعد مسبقا ووضعته في صينية كبيرة وألقت به في فرن البوتاجاز لتخرجه بعد ساعة كاملة أشبه بطائر الشحرور أو الطائر الأسود كما يطلقون عليه في إنكلترا والدول الأوروبية، كانت الصينية قطعة واحدة سوداء متفحمة، وكان السمك هشا، مجوفا من الداخل، وبالطبع كان مصيره سلة المهملات!

إلى هنا تبدو القصة عادية، معادة ومكررة، قاسما مشتركا بين الكثير من الزوجات حديثات العهد، إلا أن ردة فعل الزوج والحماة كانت صعبة وغير متوقعة البتة، كلاهما سخرا من صديقتنا، حتى أنها تركت بيت الزوجية وعادت إلى بيت أبيها لتعيد الأم تشكيل علاقتها بالمطبخ مرة أخرى، وتُلقّنها فنون المطبخ وإدارة شؤون البيت والأسرة.

أما الثالثة فكانت تتبارى في وصف فشلها المطبخي بحماسة منقطعة النظير، كمن تقف أمام الكاميرا وتمسك بميكروفون تذيع أسرارها المنزلية بزهو القائد المنتصر، وكيف أنها طهت اللحم المحمر فصار يشبه حبات الفول المصري المدمس، وأثارت ضحكات زوجها واستنكاره لصنيعها غضبها ولم تمهله أو تمهل نفسها فرصة لتعديل الوضع، بل جمعت ملابسها وتركت البيت راضية، قانعة بأن هذا الرجل لا يصلح زوجا، فعوضا عن التدرب على فنون الطهي، أو تقبل الوضع والتعامل معه بمرونة، كان الفكر الجامد هو سيد الموقف، حتى الرجل لم يمهل نفسه أو زوجته فرصة للتغيير، بل وافق على الطلاق كمن كان ينتظر الطلب ويترقب حدوثه، بل ويتوق إلى هذا.

الغريب في الأمر أن جميع الزميلات تبارين في إظهار فشلهن في المطبخ وإدارة شؤون البيت والأسرة، وفي ما يتعلق برعاية الأطفال خاصة الطفل الأول الذي دائما ما يكون حقل تجارب، بل وحقل ألغام قابلا للانفجار، لم تذكر واحدة منهن نجاحها في إدارة البيت والأسرة، ولم يكن لقصص النجاح حظا في الحديث، استغلت المساحة بالكامل لعرض الفشل وتصديره كمدعاة للفخر، والأغرب تباين تعاطي الأزواج -على اختلاف بيئاتهم وثقافتهم- مع الأمر، فمن عفا وأصفح كانت له حياة هانئة مستقرة، كسب ود زوجته وربت على كتفيها فكان لها أباً، وزوجاً، كان لها طاقة نور، وتخطيا الأمر معاً.

أما من تملكه الغضب واستأثر بقلبه وعقله، فكان نصيبه حلقة مفرغة من الفشل، تتجمع على بعضها حلقات متتابعة في ما يشبه السلسلة القوية، لا انفصام لها، تجره إلى المزيد من الفشل حتى انتهت الحياة الزوجية قبل بدايتها.

الحياة مليئة بالتجارب، منها ما يستحق النظر إليه بعين العقل والقلب معاً، ومنها ما لا يستحق عناء إلقاء نظرة عليه.  صباحكم نجاحات لا تنتهي.

21