آباء يوكلون مهام الاعتناء بأبنائهم للتكنولوجيا الحديثة

دخلت التكنولوجيات الحديثة بقدراتها الهائلة أدق تفاصيل حياتنا، بل إنها باتت تشاركنا كل شيء وتسيطر على أوقاتنا وعلى عقولنا، حتى أنها أصبحت شريكة للمرأة في أمومتها. وتستعين الكثير من الأمهات بآخر ما توصلت إليه التقنيات الحديثة لرعاية الأطفال، بالرغم من تحذيرات المختصين من تأثيراتها التي قد تكون سلبية جدّا بل وخطيرة على سلامة الصغار، وأيضا على توازن علاقاتهم بأفراد الأسرة وخاصة الأم.
لندن - تعد الجوارب التي تسجل معدّل ضربات القلب وأسرّة الأطفال التي تحاكي الرحم الوالدين بالراحة والرفاهية، لكن هل تعتبر البيانات الممنوحة لشركات التكنولوجيا مقابل تلك الراحة تبادلا عادلا؟
يشعر الكثيرون اليوم بالضيق لمجرد قضائهم وقتا مع طفل صغير متشبث بهاتف ذكي، غير أن تعلق الأطفال منذ الأشهر الأولى من حياتهم بالتكنولوجيات الحديثة والهواتف الذكية تحديا بات أمرا شائعا ومتعارفا عليه في جميع دول العالم. ويبدو الأطفال من عمر سنة واحدة وكأنهم منومون عبر أغاني الصغار الرديئة على موقع يوتيوب.
ويعرف الأطفال الذين يبلغون سنتين من العمر كيفية اختيار فيديو قبل أن يتمكنوا من النطق والكلام. وقد يسأل طفل بالغ من العمر خمس سنوات أمه “متى يمكنني الحصول على هاتفي الخاص؟”، فقد تحصلت قريبته ذات الأربع سنوات على جهازها الشخصي.
جيني هي رضيعة لم تبلغ من العمر سنة واحدة، ولا تعلم ما هو الهاتف، يتم إجراء أكثر من 1 مليون ارتباط عصبي في دماغ هذه الرضيعة كل ثانية، وفي عمر 10 أسابيع، لا يمكنها رؤية طيف الألوان كاملا أو التمييز بين الأشياء المحيطة بها. ومع ذلك ترتبط حياتها ارتباطا وثيقا بالتكنولوجيا. قبل أسابيع قليلة من ولادة جيني، قامت والدتها بتنزيل تطبيق “الرضاعة الطبيعية وتتبع الطفل” المجاني، الذي أطلق عليه اسم “فيد بايبي” وبدأت تكتشف خدماته.
يعيش المتزوجون حديثا بعيدين عن أسرهم، فيجد الآباء الجدد أنفسهم وحيدين في مواجهة مرحلة جديدة وغامضة في نظرهم من التكنولوجيا التي تطغى على حياتهم
ويقول مطوّر في وصفه بحسب ما أوردت صحيفة الغارديان البريطانية بأنه “التطبيق الوحيد الذي ستحتاجه لرعاية طفلك الصغير”. وقد تم تنزيله أكثر من مليون مرة. قبل أن تعرف جيني رائحة أمها أو تمسك بإصبعها لأول مرة، كانت تبعث كمية هامة من البيانات. تشرح أمها من منزلها في مقاطعة كيلكيني بأيرلندا طريقة استخدام التطبيق قائلة للغارديان “إنه أمر بسيط حقا. تقوم بإعداد ملف طفلك، وتضع موعد ولادتك ومتى ولدت. يمكنك إضافة كل ما يتعلق بالتغذية. إذا كنت ترضعين طفلك رضاعة طبيعية، ما هو الجانب الذي أرضعت منه خلال كل حصة؟ إذا كنت ترضعين طفلك بالزجاجة، فما هي الكمية التي تناولها؟ يمكنك تتبع مواعيد تغيير الحفاظات، وحتى ما كان فيها. يمكنك تتبع مواعيد النوم. ونسبة الدواء إن كنت تستخدمينه. يمكنك تتبع النمو، يمكنك تتبع الطول والوزن والأسنان والحمامات.. يمكنك تتبع كل شيء”.
تنتمي جيني إلى جيل ستحدد كل النسب في حياته بالكامل. وقد تعود البيانات في بعض الأحيان إلى وقوع الحمل، بفضل تطبيقات تتبع الخصوبة. أصبحت لدى أم جيني رسوم بيانية تظهر لها المدة التي قضتها جيني نائمة، وكيف كان تغيير حفاظاتها منتظما. واستخدمت التطبيق بشكل منتظم ودوري، وسجلت كل ما يمكن تسجيله عن رضيعتها. ثم تغير ذلك الروتين في أحد أيام يناير، عندما اكتشفت شيئا. وصرحت الأم “كنت أستخدم هذا التطبيق حتى أتوقف عمّا أشعر به من قلق، لكن جعلتني نسبة المعلومات التي أسجلها أكثر قلقا. وبمجرد أن توقفت عن استخدامه، زادت ثقتي في قدراتي كأم”.
لا يفكر الأشخاص الذين لا يمتلكون أطفالا بهذا النوع من التكنولوجيا والتطبيقات، لكن المبرمجين يفكرون في كل شيء. وتتنافس شركات التكنولوجيا المتخصصة في أجهزة التتبع والأجهزة القابلة للارتداء في معرض بيبي شو (المعرض الرائد للأطفال والحمل في المملكة المتحدة، والذي يقام في لندن وبرمنغهام). وتقول سوزان راوبيرغر، مديرة المعرض، إن التكنولوجيا تساعد الآباء على الشعور بالارتباط بأطفالهم قدر المستطاع، وتوفر الطمأنينة وراحة البال، وتوضح أن الآباء انتقلوا من البحث عن المعلومات بين أفراد العائلة والأصدقاء إلى استخدام التكنولوجيا التي تطورت بسرعة كبيرة على مدى السنوات الخمس الماضية.
ومن بين المنتجات الحديثة التي عرضت هذا العام نجد “بلوبيل”، وهي شاشة مقاومة للماء طورها اثنان من مستشاري إدارة الرعاية الصحية السابقين ومحلل بيانات سابق في هيئة الخدمات الصحية بالمملكة المتحدة. تنقل هذه الأداة معلومات عن درجة الحرارة، معدل ضربات القلب.. إلى شاشة صغيرة يثبتها أحد الوالدين على المعصم، وتنبه صاحبها إذا ما انخفض معدل تنفس الطفل، أو إذا كان يتدحرج إلى الأمام. وأصبح الجورب الذي يقيس درجة الحرارة ومعدل ضربات القلب وتشبع الأكسجين والحركة عند الأطفال عنصرا ضروريا لدى الآباء في هوليوود؛ وقد كشفت الممثلة جيسيكا ألبا أنها كانت تستمع إلى تنفس أطفالها في كل ساعة، قبل أن تشتري الجورب لطفلها الأصغر سنا.
ويشير الرئيس التنفيذي للشركة المصنعة للجورب، كيرت وركمان، وهو أب لثلاثة أبناء، أن التكنولوجيا أصبحت عاملا رئيسيا في تربية الأطفال، من التطبيقات والأجهزة إلى البيانات والذكاء الاصطناعي. وأكد حرص المستثمرين على التعامل مع الشركات التي تقترح حلا للمشاكل المنتشرة. وتلقت شركة في كاليفورنيا تسمى “هاتش بيبي”، تصنع حصائر تغيير ذكية، استثمارات غير معلنة من صندوق أليكسا الذي يمثل أكبر سوق في العالم لمنتجات الأطفال. وتخلق المشاكل التي يتعرض لها الآباء الجدد والذين غالبا ما يكونون متوترين في ما يتعلق برعاية أبنائهم الرضع منصة هامة من المستهلكين الباحثين عن الحلول والمساعدة.
يشرح وركمان “لا يوجد شيء أكثر أهمية لي من أطفالي. ولا يوجد دور أكثر أهمية في المجتمع من دور الوالدين، لكننا نخضع إلى التدريب للحصول على رخصة قيادة، ولا يحصل الوالدان على ذلك النوع من التمارين. بين عشية وضحاها، أصبحت طبيبا وممرضة ومدرب نوم ومعلما. ونواجه الكثير من المخاطر عند قيامنا بكل هذه المهام. هذه فرصة لتدخل التكنولوجيا”. غالبا ما يعيش المتزوجون حديثا بعيدا عن أسرهم، فيجد الآباء الجدد أنفسهم وحيدين في مواجهة مرحلة جديدة وغامضة في نظرهم، ما يجعلهم يطلبون المساعدة من التكنولوجيا التي تطغى على حياتهم.
وتقول مؤلفة دراسة حول استعمال الأمهات للهواتف في بنسلفانيا إميلي تشيفرز يوشيم “تشعر الأمهات بمسؤولية متزايدة تجاه تحقيق نجاح أسرهن في عالم تزداد فيه المخاطر. يمكن أن ينهار كل شيء في أي لحظة، يمكن أن تنهار أموالك، يمكن أن ينهار منزلك، عليك أن تعمل بجد للتأكد من حصول أطفالك على أفضل تعليم. تتدخل الوسائط الرقمية، والهواتف على وجه الخصوص، لتهدئة هذا الشعور بالتوتر". تحولت الأمهات إلى البحث على إجابات لأسئلتهن في مواقع مثل غوغل وفيسبوك. وهنا، خلقت فكرة التطبيقات وما تبعها. ويتم جمع كل هذه البيانات وإعادتها إلى دائرة تخدم الاهتمام التجاري. ويؤكد وركمان على أن شركته تبذل جهدا في التأكد من بقاء البيانات “محمية ومجهولة المصدر”.
يمكن أن تكون هذه التكنولوجيا مفيدة، ويمكن أن تنقذ حياة رضيع. وتقول ماري واهل، عالمة بيانات في مايكروسوفت، إنها حاولت استخدام الجورب لابنها، لكن قدمه كانت صغيرة. فأصبحت تستخدم تطبيقا يسمى “غرو بايبي” لتتبع كل البيانات المتعلقة به، وتقول إن التكنولوجيا الرقمية ساعدت في “سد الثغرات” بمعرفتها. ولا تشعر ماري بالقلق حول مستقبل البيانات المجمعة. “أعمل في الذكاء الاصطناعي، ليست فكرة تقديم منتج مجاني حتى نتمكن من بناء مجموعة بيانات ذات قيمة تجارية جديدة في مجال عملي”.
وتؤكد “بالنسبة لي، تمثل هذه المقايضة عنصرا جديرا بالاهتمام، لكنني قلقة بشأن الطريقة التي تدفع بها هذه التطبيقات نفسها لتجمع المعلومات يوميا”. حتى لو كان لدى المصممين أفضل النوايا، فإنهم لا يستطيعون التنبؤ بطريقة استخدام التكنولوجيا الخاصة بهم. كانت أيسلينغ أوكان، الباحثة في مجال التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر بجامعة بريستول، جزءا من فريق أجرى دراسة معمقة لستة أطفال بريطانيين يستخدم أهاليهم الجوارب الذكية.