المنافقون المدّاحون

قام الخطيب وأسهب في امتداح الحاكم. ثم أفاض في حديث التأثيم، لكي يجعل الناس خارجين عن طاعة ولي الأمر، ومتوغلين في الجحود والضلال.
قال إنهم يصنعون الفتن. فكيف يريدون للحاكم أن يستريح، لمحض كونه مريضا وطاعنا في السن، بينما عيناه تلمعان إصرارا ورفضا للتنحي أو إرجاع الأمانة للناس. عندئذ لا ينسى الخطيب التذكير بما فعله الخارجون عن الصف في سيدنا عثمان. وكأن الناصحين الذين يريدون للفاشل والطاعن في السن أن يستريح، قد شحذوا السكاكين وأرادوا ذبحا، أو كأن للحاكم مأثرة من مآثر عثمان. فالخطيب المنافق يؤجج نفس سيده. هو أضرّ عليه من معارضيه وأعدائه. يتظاهر بالفضيلة والرُشد، وتنطوي نفسه على غير الظاهر منها، ومعلوم أن جذر تسمية المنافق بصفته هذه، هو النفق الذي تحفره الأرانب، فتجعل له فتحتين وربما أكثر، فإن أحست بالانسداد أو الحرج أو الخطر، تفلت من الجهة الأخرى. فمثلما للمنافق وجهان، فإن للنفق فتحتان، يختار وجهته من إحداها حسب الموقف والمصلحة!
في حكايات المنافقين المداحين، ليس أطرف مما فعله عُبادة بن الصامت، أول قاض مسلم في فلسطين. فعندما أحس أن معاوية يُخطئ، أنكر عليه بعض أفعاله. غضب منه وقال له لن أساكنك أرضا واحدة، وقفل عائدا إلى يثرب. لكن عمر بن الخطاب أعاده قائلا “قَبَّح الله أرضا ليس فيها أمثالك”. ثم حدث أن كان عبادة مع معاوية يوما، فقام خطيب يمدح معاوية، ويثني عليه، ليبادر عبادة بتراب في يده، إلى حشو فم الخطيب.
غضب معاوية، فقال له عبادة “إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ومكسلنا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم”. واستطرد قائلا “يومها أوصانا رسول الله، إذا رأيتم المداحين، فاحشوا في أفواههم التراب!”.
في منطق الخطيب المنافق، لا ينبغي أن يكون هناك رأي ولا اجتهاد ولا نصيحة ولا تخطئة للحاكم. والأوجب في ما يرى، أن تتأسس على الرأي بغضاء، وأن ينقسم الناس وأن يتنافس الموالون في الموالاة. فالخطيب الضال، ينكر على الدين الحنيف أنه يحث على تقويم الاعوجاج. ففي السيرة والأثر، أن ابن الخطاب، الخليفة الثاني، سأل النبي: كيف تراني يا محمد؟ فقال “أراك والله كما أحب، وكما يُحب من يحب لك الخير، أراك قويا على جمع المال، عفيفا عنه، عادلا في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف”. فقال عمر “الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلتُ عدلوني”.