نجا المهداوي الحروفي الطائر الذي صنع جنة للغة

الفنان التونسي يكفيه أن يقول "أنا خطاط" ليستحضر حضارة كان الحرف سيد إيقاعها. إنها حضارة تستمد قوتها التعبيرية من أسرار النص الذي تتشكل صورته من شغب الحروف الجمالي. 
الأحد 2019/03/03
تونسي عالمه بين النص وحروفه

شهدت سبعينات القرن الماضي عملية نزوح كبيرة من الخط العربي في اتجاه الرسم، كان شعارها “استلهام الحرف العربي جماليا” أو ما سمي بـ“الحروفية” وهو التيار الفني الذي بدأ منتصف الأربعينات ولاقى رواجا كبيرا بعد سنة 1972 وهي السنة التي أعلن فيها الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد عن قيام تجمع البعد الواحد ببغداد.

رسام عربي وحيد ظل متمسكا بصفة “خطاط” هو التونسي نجا المهداوي.

على العكس من كثيرين يشعر المهداوي أن تلك الصفة تضفي على تجربته الكثير من الرقة والمهابة. يكفيه أن يقول “أنا خطاط” ليستحضر حضارة كان الحرف سيد إيقاعها. إنها حضارة تستمد قوتها التعبيرية من أسرار النص الذي تتشكل صورته من شغب الحروف الجمالي.

فرش المهداوي حروفه على مائدة النص فصارت تتداخل وتتقاطع وتتصادم ويذوب بعضها في البعض الآخر من أجل أن يبقى النص حيا ومفتوحا على مفاجآت صوره.

لا يشبه المهداوي أحدا من الحروفيين ولا يشبهه أحد. لا لأنه لم يتخل عن صفته خطاطا، بل وأيضا لأنه حرص على فرديته رساما. كانت هناك دائما مسافة تفصله عن الآخرين، بسبب طريقته في التفكير بالمعنى الذي ينطوي عليه مفهوم “استلهام الحرف جماليا”.

لم يقطع الفنان صلة الحرف بالنص، فرسمه مشيدا بإيقاعه الذي يحيط بحركة الكلمات وهي التي لا تقف عند حدود المعنى بل تمضي مدفوعة ببوحها إلى الحافات الجمالية.

لقد قبض المهداوي على نغم الكلمات. فكان المرء كلما رأى لوحة منه يشعر أنه ينصت إلى الأصوات التي تخلق صورا مركبة. لذلك يبدو الرسام أشبه بالحكواتي الذي يسحر المستمعين إليه بصوته لا بحكايته. فجمال الحرف لا يقع في شكله بل في حركته التي تخلق في كل مرة إيقاعا جديدا، لم تكن الأذن قد التقطته من قبل.

الناظر إلى لوحة من نجا المهداوي هو كمَن يستمع إلى سمفونية تساهم كل الأدوات الموسيقية في عزفها. فهل يُلام هذا الفنان إذا ما احتفظ بمهابة الخطاط وسلطته؟

رجل التقنيات الحديثة

 المهداوي قد خطط منذ البدء لكي يحمل حروفيته إلى العالم باعتبارها هبة شكلية لا مثيل لها في الأساليب الفنية الحديثة
 المهداوي قد خطط منذ البدء لكي يحمل حروفيته إلى العالم باعتبارها هبة شكلية لا مثيل لها في الأساليب الفنية الحديثة

ولد المهداوي في تونس العاصمة بباب سويقة عام 1937. درس الرسم في أكاديمية سانتا اندريا بروما ثم انتقل إلى مدرسة اللوفر بباريس.

سيكون لافتا في سيرته الشخصية أنه الفنان العربي الوحيد الذي تزين لوحاته السطوح الخارجية للطائرات. كما أن عددا من رسومه قد تحول إلى منحوتات وضعت في الساحات العامة.

تعلم الفنان أن يكون معاصرا بتقنياته فلم يكتف بطرق التنفيذ التقليدية بل استفاد من القدرات الهائلة على الاختصار والتنويع التي تتمتع بها برامج الحاسوب بتطبيقاتها التي لا تزال غامضة بالنسبة لكثر من الفنانين العرب. لقد استغنى عن كدح يده مكتفيا بخيالها.

يمارس المهداوي الخديعة الفنية كما لو أنها حقيقة حياته المفرطة في صدقها. إنه يرسم الحرف ويستضيفه شاهدا في الوقت نفسه. وهو أيضا ينساق إلى مغامرة فنية، يلعب فيها الرسم دور المحرض الذي يكتفي بمراقبة النتائج الجمالية التي يمكن أن تنتهي إليها.

سيُقال إن المهداوي في استجابته لشروط التقنيات الحديثة إنما يمارس دورا سلبيا يتلخص في انتظار المفاجآت. وهو قول يفرط في قيمة ما فعله الرسام قبل أن يهتدي إلى التقنيات التي تيسر عليه عمله وتغنيه عن سلسلة من الأفعال التي لم تعد ذات قيمة، بالرغم من أنها تستهلك جزءا عظيما من أوقاته. فلت المهداوي في وقت مبكر من حياته من أسر عادات الفنان التقليدي من خلال تعرفه على التقنيات الحديثة. إنه يرسم ويحلم ويفكر من خلال وسيط ذكي هو الحاسوب.

التراث كما لم نره

الناظر إلى لوحة من نجا المهداوي هو كمَن يستمع إلى سمفونية تساهم كل الأدوات الموسيقية في عزفها
الناظر إلى لوحة من نجا المهداوي هو كمَن يستمع إلى سمفونية تساهم كل الأدوات الموسيقية في عزفها

في البدء أسرته رسوم الفنان بول كليه الذي أقام يوما ما في سيدي بوسعيد غير أن كل ذلك الإعجاب صار جزءا من ماض

لا يمكن استعادته حين صار كل ما يفعله يحتكم إلى أدوات المستقبل. ما رسمه الفنان التونسي يمكن أن يمهد لما لم يرسمه بعد. فخياله يسكن الحاسوب الذي يضعنا أمام احتمالات لا تُحصى.

بالنسبة للحروفيين العرب فإن المهداوي هو الأشهر عالميا، على الأقل في ما يتعلق بمسألة الحرف العربي. 

ولكن ما الذي يعنيه أن يكون الحروفي العربي عالميا؟

كما أرى فإن المهداوي قد خطط منذ البدء لكي يحمل حروفيته إلى العالم باعتبارها هبة شكلية لا مثيل لها في الأساليب الفنية الحديثة. ليس لدى العربي ما يقدمه إلى العالم أجمل من علاقته بعالمه اللغوي الوسيع.

“أنا لغتي” يمكنه أن يقول ذلك ليتخطى دائرة الخوف من إمكانية أن لا يعترف الآخر به باعتباره كيانا مجهولا. لذلك فقد انحاز المهداوي إلى اختلافه الذي هو تكريس لإرثه الجمالي الذي يمكن أن يعتبر وصفة جاهزة. 

 كان ذلك الإرث هو مرجعيته التي لا تقبل الشك أو الحذر. وهو ما يناقض الحديث المتداول عن أثر الفرنسي أندريه ماسون في التفكير بجماليات الحرف العربي.

كدح اللغة الجمالي

لقد أسس المهداوي لحيلة من نوع مختلف. فحداثته بالرغم من استنادها إلى مرجعية أصولية هي الخط العربي فإن النتائج التي انتهت إليها كانت متحررة من الفكر الأصولي الذي وضع ذلك الفن في لائحة المحرمات التي ينبغي عدم المس بقوانينها.

يقول الفنان “إن التراث بكل غناه يمكن أن يضع الفنان في سجن أيضا” وهو ما يعني أن الفنان الذي حرص دائما على أن يكون خطاطا كان يعي الخطر الذي ينطوي عليه موقفه وهو يصنع معادلة صعبة طرفاها التراث والمعاصرة. فهو معاصر بقوة انتمائه إلى التراث وهو أيضا تراثي بقوة انتمائه إلى العصر. ذلك لأنه لا يجد للزمن معنى في ما يؤسس له.  يحتفي المهداوي بكيمياء النص في الوقت الذي لا يكف فيه عن التلصص على إيقاع الحروف. بالنسبة له فإن الحرف ليس سجين الكلمة والكلمة هي الأخرى ليست سجينة غير أن خياله يذهب بكل تلك العناصر إلى المنطقة التي يتوقع أنها ستكون موقع صدامها.

عدد من رسوم المهداوي قد تحوّل إلى منحوتات وضعت في الساحات العامة
عدد من رسوم المهداوي قد تحوّل إلى منحوتات وضعت في الساحات العامة

يرسم الفنان على وقع انفجارات متخيلة. ولأنه يثق باللغة كونها سببا لسوء الفهم فإنه يدرك أن الكلمات ستخون نصها وأن الحروف ستفلت من مصير كلماتها وبذلك لن يكون هناك نص مؤكد. وهو ما يعني أن كل ما قرآناه لن يكون مؤكدا في ما نبصره.

الحروفية بالنسبة لهذا الفنان هي عبارة عن عملية ملاحقة لنص مفقود. تبدأ تلك العملية بمتعة النظر ليتبعها كدح التفكير الذي يفضي إلى مساحة التأمل. وهي المساحة التي يود الرسام أن نقيم فيها من أجل أن يضطرنا إلى الاعتراف بتبعيتنا للغة، اللغة باعتبارها مقياسا لوجودنا.

يقدم لنا المهداوي لغة تكدح جماليا ليغرينا بالقيام بخدمتها، اعترافا منا بقوة تأثيرها البصري علينا. إنه يعيد صلتنا بالنص الذي يهبه الخط العربي صفة المقدس من غير أن ننتبه إلى أن ذلك النص لا ينطوي على شيء من القداسة المتعارف عليها.

النصوص التي يرسمها المهداوي توحي بقداستها خدمة لجمال أرضي، سيكون علينا لاحقا التحقق من وجوده من خلال السحر الذي يمارس تأثيره علينا.

نجا المهداوي في حقيقة ما فعله حرر اللغة من تداولها اليومي ليصنع منها صورة تحرر العين بطرق مختلفة من قراءة النص باعتباره بلاغا. 

9