الطفو على أرض هشّة: الإنسان يفقد قدرته على الاستقرار

تتجاوز بعض المصطلحات والمفاهيم معناها التقليدي نحو تعريفات ودلالات أوسع، من ذلك التحول الطارئ على مفهوم الطفو وتحوله من تعبير عن حالة فيزيائية إلى فكرة مرتبطة بالحركة في اللامكان في ظاهرة ندفع إليها بعنف السلطة السياسيّة، حيث يجد الفرد نفسه معلقا سواء ماديا أو رمزيا في مساحات محدّدة كالمخيمات والبوابات الإلكترونية على الحواجز، والطفو في البحر، حيث تنتشر قوارب اللاجئين وجثثهم وأحلام الهاربين من قمع سلطة أو جحيم حرب.
باريس – أنجز الفنان الأميركي مايكل مورفي عام 2014 عملا يطفو في الهواء، مكونا من مجموعة من الأسلحة المتنوعة، التي تشكل من زاوية النظر الأولى، مسدسا ضخما، وحين نستدير إلى الزاوية الثانيّة، نُشاهد خارطة للولايات المتحدة. يقود هذا العمل نحو تشكيل مفهوم الطفو، بوصفه مجموعة من الشروط المادية والسياسية، التي يتحول الفرد على إثرها إلى موضوع غير ثابت على الأرض، بالمعنى الرمزيّ أو الحقيقي.
ينشأ الطفو إثر تغيّر تعريفات المكان وحدوده، وفي ذات في الوقت، كما في المنحوتة، تتغير الخصائص الداخلية لمن يطفو، قد يكون سلاحا أو دولة، والاثنان يمثلان عنفا يطبق على الفرد حدّ الطفو، ليفقد إثره قدرته على الثبات والاستقرار والاستمرار في الحياة، فالطفو يولد سياسيا، بوصفه أثرا على تقنيات النفي والتهميش، التي يكون الفرد فيها معلّقا في المكان والزمان مجردا من حقوقه، بصورة قد تهدد حياته.
يرتبط الطفو بالمكان وخصائصه الماديّة والرمزيّة من وجهة نظر الـ"درومولوجي" وهو علم السرعة والانتقال حسب الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو. من هذا المفهوم يمكن النظر إلى المدن الخاضعة للسيادة كحصون تختزن كتلة بشرية مضبوطة الحركة لأغراض سياسية وعسكرية واقتصادية. لتتحول الأبنية والشوارع والمساحات العامة إلى أجهزة لضبط حركة الأفراد على الأرض وتوجيههم والتحكم بتسارعهم. ذات الشيء ينطبق على البحر والهواء بوصفهما مساحات سياديّة.
أعاد الآلاف من طالبي اللجوء والمهاجرين الذين يعبرون البحار مفهوم الطفو للحضور، فهم خارج الأرض يتحركون ضمن مساحات حدودية خطرة، لا فقط بسبب قسوة الحياة ضمن فضاء السفينة أو القارب، بل بسبب السلطة ذاتها
ومع تطور العصر أصبح انتقال البشر والمعلومات والمكونات الماديّة أسرع، لكنه في ذات الوقت، مضبوط لا فقط بالحدود المادية، بل بمقومات الحياة وشروطها وكيفية الوصول لها وتوافرها، والتي تسعى السيادة لتصميمها بحيث تكون محتكرة داخل الحصون/المدن، أما رمزيا فأساليب الانتقال وسرعتها ترتبط بالبيروقراطية والأوراق الرسمية، التي تبيح الحركة وتسهلها، وتضمن الحق للمواطنين بالتنقل، إلى جانب تحديد حقوق التقسيمات القانونية الأخرى الخاضعة للسيادة كاللاجئين وطالبي اللجوء أو من هم دون أوراق رسميّة.
تمتد هذه التقسيمات إلى المستوى الاقتصادي، فقراء، مشردين، عمّال مصانع، وأيضا الموظفين الذين تُضبط مساحات حركتهم وتنقلهم والأجهزة التي يستخدمونها للحركة (سيارات خاصة، وسائل نقل عامة…)، ليظهر الطفو كواحد من التقسيمات التي تنتجها السيادة السياسية بصورة غير رسمية، والتي نتلمس بصعوبة آثارها المرئية، كحذاء تيري فونتين، الذي نبتت عليه أعشاب وكائنات بحرية إثر رحلة 9000 قام بها نحو باريس، موثقا التعب والمعاناة، والتغيرات التي تصيب مكونات العناصر إثر سطوة الزمن والانتقال بين المساحات المختلفة بصورة غير رسمية.
السفينة: مخيّم بلا أرض
أعاد الآلاف من طالبي اللجوء والمهاجرين الذين يعبرون البحار مفهوم الطفو للحضور، فهم خارج الأرض يتحركون ضمن مساحات حدودية خطرة، لا فقط بسبب قسوة الحياة ضمن فضاء السفينة أو القارب، بل بسبب السلطة ذاتها، سواء تلك التي دفعتهم للخارج، أو تلك التي تمنعهم من الدخول، لتتحول السفينة نفسها إلى احتمالات موت تطفو على البحر، تلفظها حرفيا السلطات السياسية وتمنع دخولها إلى “مياهها” و”أراضيها” كما تفعل الحكومة الإيطالية التي تمنع السفن من دخول مياهها، وترفض إرسال قوارب مساعدة، لتترك السفن تطفو والأجساد التي عليها مهددة بالموت والغرق.
كما في المنحوتة السابقة، تتغير التكوينات الداخلية للأفراد وتعريفاتهم. فمن زاوية النظر الأولى، هم ليسوا مواطنين، بل هم طالبو لجوء، منادون، يطفون بحثا عن مُضيف، الذي عوضا عن الاستجابة للنداء، ينفيهم بسبب اختلافهم عنه وعن الجسد الوطني، ومن زاوية أخرى، يتحولون إلى كتلة متجانسة بالنسبة للسيادة الأوروبيّة هم “فايروس” أو “جرثومة” لابد من حظرها ومنعها من الدخول، وطفوها هنا سياسي نتيجة المنع، وكأنهم كتلة واحدة خطرة لابد من التخلص منها، يتحركون على الحواف والهوامش، متروكين للموت، ليظهر الطفو إثر النفيّ الماديّ لأجساد المهاجرين والباحثين لا عن شيء، سوى الحقّ بالحياة الذي نظريّا، يضمنه بيان حقوق الإنسان.
تحضر هذه الصورة للطفو في تاريخ الفن في لوحة “طوف ميدوزا” لثيودور جيريكو وحكايته المأساوية، والذي عاد للظهور في تمثيلات معاصرة بوصفه شاهدا على النفي السياسي وقسوة الشروط في هذه المساحة التي قد تضطر الركاب لالتهام بعضهم البعض، والتي نتلمس قسوتها في صور سيرغي لومينوف التي شبهت باللوحة السابقة لشدة قدرتها على التعبير عن المأساة.
حواجز خارج الزمان والمكان
يظهر مفهوم الطفو في أقسى تجلياته تحت الاحتلال، لا فقط في المساحات التي يتم استعمارها، بل عند النقاط الحدودية ونقاط التفتيش، تلك التي يفقد فيها الزمان والمكان تسارعهما، ويتحول إلى إيقاع بطيء يعطل أشكال الحياة، كما نرى في الحواجز التي يضعها الاحتلال الإسرائيلي، التي تعطل حركة الفلسطينيين وانتقالهم من مكان إلى آخر.
لنرى أنفسنا ضمن تكوينات مادية ورمزية، يتحرك فيها المرء ببطء، منتظرا أحيانا لساعات، خاضعا للعنف الجسدي والنفسي وسطوة اللاجدوى، فهذه الحواجز تفكك إيقاع الحياة والقدرة على الإنتاج، هي أشبه بمساحات خارج المكان والزمان، يخضع فيها الفرد للتحقيق والتساؤلات، فهو متهم دوما، وعليه إنتاج حكايات تثبت براءته ليعود إلى نسيج الزمن، كما نرى في مسرحية وجدي معوض “كلّ الطيور” والتي تتحول فيها نقطة الحدود التفتيشية إلى محكمة من نوع ما تسائل فيها جنديّة الحدود زائرةً عن تاريخها وسبب قدومها وأصولها العربية.
ذات الشيء ينسحب على الحواجز ونقاط التفتيش في الأنظمة القمعية، التي تعيق تدفق الكتلة البشرية، وتفترض وجود “عدو”. وهنا تظهر علاقة الطفو بالخطر، فهناك تهديد ما تمثله الكتلة البشرية المعلّقة، وكأن هناك من هو مُتخف بينها، ولابد من فحصه بدقة، والكشف عما يخفيه سواء ماديا أو رمزيا عبر الاستجواب والتأكد من الأوراق الرسمية واستخدام أجهزة التفتيش والكشف عن المعادن.
الأشباح التي تطفو بيننا
المقصود بالأشباح هنا الموضوعات التي تنتجها السلطة وتتركها تطفو في المدن دون أن تكون قادرة على ترك أثر في العالم، هي معلقة بين الوجود والاختفاء، كحالة طالبي اللجوء، والزمن الذي يقضونه دون أوراق رسمية، ما يمنعهم من العمل أو إيجاد مسكن. هم يتحركون ضمن الشوارع والمساحات المختلفة بتأثير محدود يكفي فقط للحفاظ على حياتهم، وهنا يبرز الطفو كجزء من سياسات السلطة لخلق فئة أو جماعة بشرية تخضع لشروط حياتية قاسية تدفعهم إلى الرحيل، كأنهم يغزون المدن كأشباح تهدد أحلام المواطنين ودافعي الضرائب.
الأقسى، أن هذه الفئة عرضة للعنف ومحاولات الاختفاء، وضحية تقنيات وألاعيب تصممها السلطة للسخرية منهم وقتل الأمل لديهم، كالخدمات الهاتفية الجديدة في فرنسا، والتي رُوّج أن الاتصال بها يسهل عملية طلب اللجوء، لكن اكتشف لاحقا أنها لا تعمل ولا فائدة منها، وكأنها لعبة مكلّفة، الخسارة فيها مضمونة، إذ تقدم وعدا بتسهيل الشؤون البيروقراطية لكنها ليست إلا وسيلة لخلق الوهم وتخليص هذه الفئة من النقود القليلة التي تمتلكها، نتلمس حضور هذه الفئة في لوحات جميل طه، إذ نرى أجسادا معلقة في الهواء، بلا أوجه وبلا هويّة، لا نعلم إن كانت تسقط أو تطفو، لكنها هناك، مرئيّة في اللامكان المحيط بنا.
الطفو في هذه الحالة أشبه بحركة ضمن الزمن فقط، فالمكان ممنوع ولا يمكن للفرد الاستقرار أو “الثبات” في منزل أو عمل، هو “متروك” حرفيا من قبل المؤسسات الرسمية لينجو على حواف الحياة، وكأنه بلا وزن، لا تأثير له على العالم، ويمكن ببساطة إجلاؤه ومن هم مثله والتخلص منهم وجعلهم لامرئيين، كما يحصل في باريس مثلا التي تقوم الشرطة فيها بإخلاء طالبي اللجوء الذين يخيمون في الشوارع، ليتلاشوا من الفضاء العام، وهذا ما تلمس ملامحه في عرض الأداء الذي أقامته الفنانة الكورية الشماليّة كيم سوجا، التي تجولت في شاحنة مليئة بالحقائب في أنحاء باريس، في إحالة إلى الذين لا مأوى لهم وجميع المشردين أولئك المتروكيّن يطفون في المساحات العامة، يتحركون دوماً بلا ثبات، كون الثبات قد ينتهي بالعنف أو النفي خارجاً.
هددت أنظمة المراقبة الدائمة وارتباطها بوسائل الاتصال الجديدة حركة الأجساد وقدرتها على التجمع، خصوصا في ظل ازدياد أشكال منع الحركة التي تعيق الاحتجاج، ليظهر شكل جديد من الطفو بالمعنى الحرفي، ذاك الذي يتجاوز العوائق المادية والبشرية. وتحضر الأجساد في الفضاءات العامة عبر الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة مجتمعة دون قدرة على تفكيك وحدتها، في سخرية من التكوين المادي للمكان.
وهذا ما نراه في المظاهرات الضوئية أو الافتراضية، التي تظهر فيها أجساد المتظاهرين وصورهم دون حضور مادي، في تحدّ لسياسات السلطة التي تمنع التجمع وتضبط الأجساد، كما حصل أمام مبنى البرلمان في مدريد الذي شهد أول مظاهرة افتراضية احتجاجا على القانون الذي أقرّته السلطة والذي يمنع الاحتجاج أمام الأبنية الرسمية. إذ نرى أجساد المتظاهرين معلقة في الهواء، تهتف وتتحرك دون أن يكون للفضاء المادي قيمة، هي ظاهرة ومرئيّة لكنها غير ملموسة، ليكون الاختفاء المادي والطفو شكلاً من أشكال التحدي المادي للسلطة وأجهزتها الأمنية (الشرطة-الجيش).
لا يقتصر الطفو على فرد واحد أو فئة من الأفراد، بل يمكن لمساحات مادية بأكملها أن تطفو، أي أن تكون متحركة دون أساس، وعرضة للعنف السياسي من جهة، ولقسوة الطبيعة من جهة أخرى. وهذا ما نراه في مخيمات اللاجئين والمساحات التي يشغلونها والتي تكوّنُ ماديا لضمان نجاتهم وحصولهم على أدنى متطلبات الحياة بناء على جهدهم الشخصي أو المساعدات الإنسانية.
الأهم أن هذه المساحات معرّضة للاختفاء فجأة، متروكة على الهامش، لتكون استثناءات حيوية، هشّة وقابلة للاختفاء، كمخيم كاليه بشمال فرنسا، أو مخيم ومركز احتجاز هولوت في صحراء النقب الذي كان يحوي طالبي اللجوء من إريتريا والسودان، والذي أغلقته قوات الاحتلال الإسرائيلية، لكن قبل ذلك تمكن الفوتوغرافي رون أمير من التقاط مجموعة من الصور للحياة هناك، والتي نرى فيها كيف تمكّن قاطنوه من ممارسة حياتهم اليومية دون أي موارد، وتطوير نوع من الحياة الاجتماعية، باستخدام الحجارة والأخشاب وما حولهم من أشياء متروكة، لتبدو آثار المخيم كعلامات على العنف السياسي، الذي تركهم معلقين يطفون في الصحراء حيث اللاشيء، دون أي حقوق وممنوعين من الدخول إلى المدن، لا يعلمون إن كان سيتم ترحيلهم إلى بلدانهم أو نقلهم إلى مراكز أخرى.