الحفظ عن ظهر قلب

عند الحديث عن الحفظ، ما زلنا، حتى يوم الناس هذا، نقول “عن ظهر قلب” سيرا على خطى بعض الفلاسفة اليونانيين، كأرسطو، الذي كان يعتقد أن موضع الذاكرة هو القلب، خلافا لآخرين، مثل أفلاطون وأبوقراط وسواهما ممن أدركوا أن الدماغ هو محل الذاكرة، مثلما أثبت من زمن بعيد الطبيب اللاتيني كلاوديوس غاليينوس (130-210).
وبرغم تطور علم التشريح منذ القرن السابع عشر، واكتشاف أدق وظائف عمل الدماغ، لا يزال هذا التعبير سائدا في شتى الثقافات، ويزداد حضورا في المناهج التعليمية، التي نبذته في مرحلة ما، للحث على “شحذ الذهن بدل شحنه” بحسب عبارة مونتاني، ثم عادت إليه تدريجيا بعد أن اكتشفت أهميته في عمل الذاكرة، على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة.
ففي فرنسا مثلا، وقع التغاضي منذ السبعينات عن الحفظ، والاستعاضة عنه بما سُمّي بيداغوجيا الإيقاظ، التي تركز على سبل التعلم عن طريق التحسس التجريبي أو التبادل الجماعي بدل خزن المعارف، أي تدريب التلميذ كيف يتعلم. ثم عاد التعلم عن طريق الحفظ في الثمانيات دون فصله عن المعنى، قبل أن يستعيد موقعه في شكله الآلي الصرف، بالرجوع إلى تدريب التلاميذ على حفظ المنتخبات الشعرية. ويقول الخبراء إن هذه العودة لها ما يبررها، لأن بيولوجيا الذاكرة تثبت الدور الأساس للتكرار.
هذا مثلا ألان ليوري، المتخصص في علم النفس الإدراكي يؤكد أن التكرار يفضي إلى ارتباطات قارة بين الخلايا العصبية عن طريق نقاط التشابك العصبي، وإلى تواصل أكثر مرونة وسهولة بين الأعصاب الباثة.
فالتكرار في رأيه يمثل آلية لا محيد عنها للمستوى البيولوجي للذاكرة. ولا يعني ذلك عودة إلى التلقين، لأن الغاية ليست تَعلُّم مجموعة كبيرة من المعطيات في زمن محدد، بقدر ما هي جعل مراحل الحفظ منتظمة ومتنامية، مع مراعاة أوقات الراحة، والنوم الهادئ، والتأكيد دائما على ضرورة أن يكون الحفظ مرتبطا بالفهم، فهو شرط لازم لمقارنة المعلومات، وحشد المعارف، ومنح المكاسب معنى.
وغني عن القول إننا لا نورد هذه المعلومات رغبة في العودة إلى التلقين، وإنما للتأكيد على ما للحفظ “عن ظهر قلب” من أهمية في ترسيخ المكتسبات، في شتى مجالات المعرفة، تستوي في ذلك المواد العلمية والأدبية والفكرية والتاريخ والجغرافيا وتاريخ الأفكار، لاسيما في هذا العصر الذي طغت فيه الآلات الذكية، ونابت عن الإنسان في تذكر كل شيء، في أي لحظة، ما أدى إلى تقلص عمل الذاكرة بشكل رهيب، لدى الكبار، فما البال بالناشئين.