ما بعد اللائكية بين رف الكتب

المعجزة قد تكون مدنسة وحديثة، تلك هي الملاحظة المدهشة للفيلسوف الهولندي هنت دي فريس. ففي رأيه أن المعجزة اليوم هي الحياة نفسها، لم تعد مسألة دينية بل صارت ناتجة عن تأمل النظام الطبيعي الذي يصيبنا بالذهول.
ولكن التسليم بأن كل شيء من قبيل المعجزات قد يؤدي إلى اعتبار الخوارق أمورا معتادة. عندما تقدم لنا تكنولوجيات الاتصال مزيدا من الأحداث يوما بعد يوما، فإننا سوف نجد صعوبة في التمييز بين المكرر والجديد.
لذلك، "قد تشترط الميكانيكا تصوفا" كما يقول برغسون، فنمسك عندئذ بأحد المفاتيح لفهم عودة الدينيّ، الذي ينتج في جانب منه عن الحاجة إلى تصور الأحداث الخارقة غير كونها مجرد أحداث تتوارد في الزمان.
والمؤلف يستحضر فيتغنشتاين وستانلي كافيل لتَصوّر عصر "ما بعد لائكي" يُحلّ الإعجاز موضعا يُتقبَّلُ فيه كأمر عادي، ليس لأثره سبب بالضرورة. يقول الكاتب "قد نعيش فترة ينبغي خلالها تعلم التفكير من جديد، وكذلك العيش، وقبول فكرة أن كل شيء ممكن".
الآلة كوسيلة لسحق الإنسان
"إتقان التقنية" كتاب للألماني فريدريخ جورج يونغر وضعه عام 1944 ردّا على أخيه إرنست يونغر الذي مجد في كتابه "العامل" السير المحتوم نحو آلية عامة، وبشر بقدوم عالم جديد.
وخلافا لأخيه، يؤكد فريدريخ على الآثار الوخيمة التي سوف يخلقها تطور التقنية، لأنها في رأيه سوف تتبع منطقها الخاص القائم على بسط نفوذها التنظيمي وتطويره حدّ الجودة. فالمبدأ الذي تقوم عليه ليس اقتصاديا، لأن الاقتصاد يسعى لتحقيق الربح، أما التقنية فهي شرهة، مفسدة، لا تني تتلف الموارد، تتنامى على حساب استنزاف الأرض، تُنضب خصوبة هذا الكوكب لتؤكد قوتها إلى حدّ انقطاع الموارد، وزوال ما يمكن أن يغذي شراهتها.
في هذا الكتاب، يؤكد يونغر الصغير أن إخضاع الأرض بواسطة التقنية ليس مصدر ثراء، وإنما هو توزيع فقر متنام على جمع متزايد، يتم حشده لهذا الغرض، وبذلك تكون البروليتاريا والآلة متصلتين ببعضها بعضا بشكل لا رجوع فيه، ويكون الإنسان حلقة خاضعة للآلية التقنية التي تفرغ الوجود من معناه.
عن الحقيقة وما بعدها
"ما بعد الحقيقة" ليس فقط مفهوما عابرا يشجب تهافت نظريات المؤامرة أو الـ"فيك نيوز" التي عششت في البيت الأبيض، بل هو جوهر مرحلتنا" بعبارة الفيلسوف الإيطالي موريسيو فيراريس في كتابه الأخير "ما بعد الحقيقة وألغاز أخرى"، مثلما كانت الرأسمالية جوهر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والميديا جوهر الأعوام الأخيرة من القرن العشرين.
فـ"ما بعد الحقيقة" في رأيه هي لقاء بين نسبية فلاسفة ما بعد الحداثة الذين يؤمنون بأن كل شيء تأويل، وبين الإنترنت الذي يمنح كل شخص إمكانية نشر حقيقته التي تحوز تعريفا مبسطا: أقول الحق.
وبذلك يتجاوز مفهومُ "ما بعد الحقيقة" الكذب بفرض "حجة الأقوى" غير عابئ بالوقائع. الجدة لدى فيراريس تتمثل في ربطه الميتافيزيقا الخالصة (عن طريق طرح أسئلة مريبة من نوع: هل هذه الطاولة موجودة خارج إدراكنا إياها؟ وهل صحيح أن الثلج أبيض؟) بنوع من التفكير التكنولوجي.