مفاتيح الكلام

الخطابة فن يملكه بعضهم بالفطرة، ويكتسبه آخرون بالدربة والمراس. ولما كانت الخطابة في عمومها وسيلة لإقناع شرائح مجتمعية قد تضيق وقد تتسع بحسب الظرف، فقد انكب المتخصصون على تبين ملامح الخطاب ومميزاته كي يأخذ بها من يحتاج إلى تحسين أدائه وتمرير أفكاره بطريقة مقنعة، حتى غدت الخطابة مادة تدرس في الجامعات، وتؤلف فيها الكتب.
من بين المؤلفات الصادرة حديثا كتاب لسيريل دولاي، أستاذ فن الخطابة بمعهد الدراسات السياسية بباريس، عنوانه “قوانين فن الخطابة العشرة”، وهو صدى لكتاب “كيف تتكلم أمام الناس” (فن الخطابة في ترجمته العربية)، كان نشره الأميركي ديل كارنيجي عام 1915، وقدم فيه دليلا عمليا لكل راغب في التوجه إلى الناس بخطاب، فبيّن بأسلوب تعليمي العناصر الأساسية للخطاب الناجح.
منها ما يتعلق بالخطاب، كتخير البداية لأهميتها في شدّ الانتباه، والنهاية لأثرها في نفوس المستمعين، والوضوح الذي ينبغي توخيه، فضلا عن الإيجاز غير المخل. ومنها ما يخص الخطيب نفسه، كالتحلي بالثقة في النفس، والإلقاء الجيد، وهيبة الحضور على المنبر، علاوة على نصائح أخرى تتعلق بفن إعداد الخطاب، وطرق تحسين الأسلوب، وأسرار الإلقاء الجيد، مع أمثلة عن الكيفية التي كان يعدّ بها أشهر الخطباء خطبهم.
اشتمل كتاب دولاي، إضافة إلى تحليل ماهية الخطاب وأساليبه وأعلامه ماضيا وحاضرا، على سبعة مفاتيح لجعل الخطاب ناجحا. أولها ضرورة تحكم الخطيب في حالات ضيقه وانقباض نفسه أمام الجمهور، وأن يعدل ذلك باعتماد التنفس، الذي يؤثر على الجهاز العصبي نظير الودي parasympathique فيكبح الجموح التام. وثانيها أن يسيطر على مواطن صمته، فالصمت كما يقول هو المادة الأولية للكلام، يجد فيه الخطيب مهلة للتفكير، مثلما يجد فيه السامع مهلة للتأمل في ما قيل، بل يمكن للخطيب أن يتلمس في أثنائه ردة فعل مستمعيه فيعدل أو يستطرد أو يوضح.
وثالثها أن يعتني الخطيب بمظهره، ويراعي عدم التكلف في حركاته ونظراته ووقفته أمام الناس. ورابعها أن يحرص على هيكلة خطابه لأن الغاية هي السيطرة على الفضاء الزمني المتاح في عقل المستمع، وأن يسأل نفسه “ماذا يمكن أن يسمع ويفهم ويحفظ مما أقوله لحظة الكلام”. وخامسها القدرة على الارتجال، لتدارك ما التبس أو التكيف مع معطى استجد. وسادسها أن يعرف الخطيب كيف يبدأ خطبته وكيف ينهيها، كي يُحدث الانطباع المنشود.
وآخرها وأثمنها جميعا في رأينا هو المفتاح السابع، ويقضي أن يكون لدى المتكلم ما يقول. فكم من جعجعة نسمعها لا يأتي من ورائها طحن.