الأسرة تلعب الدور الأكبر في تخليص الابن من التوحد

طفل مغربي يعيش تجربة تحد ملهمة في صراعه مع التوحد والمجتمع، وأخصائيون يؤكدون أن العائلة تعتبر الشريك الأول لأي علاج أمثل لمرض التوحد.
الأربعاء 2019/01/30
نحو الأفضل

الرباط – يؤكد مختصون في علم النفس وفي حالات التوحد أن الأسرة تلعب الدور الأكبر في توفير ظروف معيشية مناسبة للابن المتوحد تتيح اتباع العلاج الأمثل لحالته، ويرجعون ذلك إلى أن المواكبة في الحياة اليومية وتوفير الرعاية التي تناسب حالته تظل مسؤولية ملقاة على عاتق العائلة أكثر من غيرها.

في عمر السنتين، كان أمين يفضل البقاء بين جدران منزل عائلته بضواحي مدينة تطوان، يقضي ساعات يومه جالسا مختبئا بين أرجاء الغرف، هائما في عالم وحده من يرسم معالمه. اليوم في عمر أربع عشرة سنة، أصبح أمين شابا وسيما، قادرا على تخليص نفسه من عزلة فرضت عليه لمواجهة العالم بخجل، لكن بخطة ثابتة. لقد كسر أخيرا أغلال طيف طالما طارده؛ مرض التوحد.

ويتذكر والده محمد الدوامة التي وجدت العائلة نفسها في وسطها أمام وضع لم تكن تفهمه. لقد كانت الصحة البدنية للطفل جيدة، وكل التحاليل التي أجريت عليه كانت نتائجها إيجابية، لكن “كان من الواضح أن في أعماقه يكمن مرض”، مضيفا أن “أمين لم يكن يتواصل، لم يستطع المشي كباقي أقرانه، وكانت نظراته دوما زائغة”.

وبعد أشهر من الحيرة، اتصل والد أمين بجمعية يحي للأطفال التوحديين، التي مازالت تواكب حالته إلى اليوم، في طريقه الشاق للخروج مما يطلق عليه الاختصاصيون “اضطرابات طيف التوحد”.

ويقول أمين، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، مسترجعا ذكريات سنواته الأولى، حيث وجد صعوبات في الاندماج بسبب “اختلافه”، إن “رفاقه بالمدرسة كانوا يستمتعون باستفزازه والسخرية منه مستغلين عفويته وإعاقته”.

المواكبة في الحياة اليومية وتوفير الرعاية التي تناسب حالة الطفل تظل مسؤولية ملقاة على عاتق العائلة أكثر من غيرها

واليوم صار أمين شابا مستقلا مفعما بالنشاط، حيث يمشي وحده قرابة الساعة في مشوار يومي من المنزل إلى المدرسة، ساعيا بجد للاندماج في المجتمع، وإن كان يفشل أحيانا في مسعاه، فإنه ينجح في أحيان كثيرة.

وفاز أمين بلقب بطل المغرب في الألعاب الأولمبية الخاصة، حيث قطع سباق مئة متر، كما حصل على الميدالية الفضية في القفز الطولي، لكن يبقى شغفه الأكبر هو الشعر، وقد اكتشف موهبته الأدبية في سن 11 عاما.

ولعل مروره ببرنامج “نجوم صغار”، في نسخته العربية، والذي تألق فيه بعد منافسة مع الآلاف من الأطفال من الدول العربية، كان مناسبة ليصف حالته من خلال مشاركته بثلاث قصائد؛ “صمتي” و”غريب” و”عودتي”، والتي تحكي معاناته وعزلته عن محيطه ثم عودته إلى حياة شبه طبيعية. وبالرغم من أنه يتلعثم قليلا في كلامه، إلا أن إلقاءه للقصائد سلس.

ويصر أمين، المنتخب عضوا في المجلس الجماعي للطفل التابع لجماعة تطوان، والعضو ببرلمان الطفل، أنه “سيكرس نفسه وجهده للدراسة”.

وأكد الطبيب النفسي ومدير مركز يحيى للأطفال التوحديين عادل الصنهاجي، أن “العائلة تعتبر الشريك الأول لأي علاج أمثل لمرض التوحد”، مضيفا أن المراكز والجمعيات وإن كانت توفر علاجات وعناية في مجال الطب النفسي الحركي، يبقى وزر المواكبة اليومية للأطفال المتوحدين على عاتق العائلات.

وفي ربيعه السادس، فقد أمين والدته وهي تعاني آلام مخاض ولادة أخيه الأصغر، وبقي حمل التربية على كاهل والده، الذي وجد نفسه ملزما بالقيام بأعباء التربية والبحث عن لقمة العيش. وتحدث الأب محمد، الذي أظهر خلال السنوات الثماني تفانيا عز نظيره في تربية أبنائه، لوكالة الأنباء المغربية قائلا “أعيش من أجل أبنائي الثلاثة”. ورغم أميته، فهم هذا التاجر أنه “بالحب والعطاء غير المشروط يمكنه مساعدة ابنه على الخروج من التوحد”.

ورفض الأب الزواج ثانية بعد الوفاة المفاجئة لزوجته، واختار أن يكرس حياته في خدمة أبنائه، موضحا “أنا من أعيش معهم وليس العكس… فسعادة وراحة بال أبنائي تمنحان لحياتي معنى”.

التشخيص المبكر يساعد على العلاج
التشخيص المبكر يساعد على العلاج

وأشار المختص النفسي الصنهاجي إلى أنه لا توجد أسباب مباشرة لطيف التوحد، وهو حالة يمكن الشفاء منها. ويوضح المختص أنه يجب على الآباء معرفة بعض تفاصيل حالة التوحد مع اعتماد الفحص السريري للجزم بإصابة الطفل به في غياب أي فحص مخبري دقيق، وذلك من خلال اتباع فحص يركز على العجز في التواصل الاجتماعي، ونقص الاندماج الاجتماعي، والأنماط السلوكية المقيدة والمكررة.

ويشدد الخبير على أن التشخيص المبكر يبقى أكبر مسؤولية بالنسبة للأبوين، مبرزا في هذا السياق ثلاث نقاط أساسية يتعين أن ينتبه إليها وتتعلق بالنظرة الثابتة للطفل خلال إرضاعه، وبداية تعلم اللغة في سن 18 شهرا، والمشي في سن 15 شهرا، وبالتالي فإن غياب أو تأخر هذه التطورات يعتبر رسالة مقلقة حول إمكانية وجود طيف التوحد لدى الطفل. وهذا بالضبط ما يدل على ضرورة وأهمية تحسيس الآباء في المجتمع المغربي بحسب المختص في علم النفس الذي نوه إلى ضرورة توفر كتب إرشادية حول نمو الأطفال لمتابعة الوضع النفسي والحركي لأبنائهم، موضحا أن جمعية يحيى تنظم لهذه الغاية حصتين للتكوين كل شهر لفائدة العائلات المعنية.

وتمثل المرافقة أو المساعدة في الحياة المدرسية، واحدة من الحلقات الأساسية في سلسلة العلاج وتتطلب تكوين مختصين في المجال يكونون على اطلاع واسع بآليات ناجعة تفيد المتوحد، لكن مازال هذا المجال خارج أي تنظيم بالمغرب.

وبالرغم من نقص الإحصائيات الرسمية حول التوحد في المغرب، إلا أن دراسة حديثة لتجمع التوحد بالمغرب، الذي يضم 52 جمعية، أبانت عن وجود بين “400 و600 ألف متوحد”، دون احتساب المرضى في المناطق النائية.

وفي المقابل أشاد الخبير بوضع وزارة التربية الوطنية لبرنامج أقسام التربية التفاعلية التي يتوقع أن تبدأ العمل ابتداء من الدخول المدرسي المقبل، والتي ترمي إلى إدماج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في المدرسة، مع تكييف منهاج وطرق التدريس لحالاتهم.

ووضعت وزارة الأسرة والتنمية الاجتماعية مخططا وطنيا يهدف إلى التكفل بالأطفال التوحديين، ويستهدف تكوين 300 متخصص في مجال التوحد على مدى 3 سنوات، سيكونون بدورهم حوالي 3000 مؤطر ومرافق في المجال.

وتظل الوصفة الناجعة لتخفيف معاناة الأشخاص التوحديين تتمثل في المواكبة وقبولهم كما هم. ويقول الصنهاجي “الطفل المتوحد هو كائن مختلف ونحن مدعوون إلى مواكبته للاندماج في محيطه العائلي والمجتمعي وهو بحاجة إلى الحب دون قيد أو شرط”.

21