الريشة تحارب النرجيلة في مقاهي مصر

مقاه ثقافية تعلي من فكرة الفن مع بعض المقومات الأساسية مثل شاشات عملاقة لمشاهدة المباريات، لكنها لا تقدم النرجيلة أو تسمح بالتدخين حفاظا على الصحة العامة.
الاثنين 2019/01/28
أفضل من سيجارة تصبغ الأصابع بالنيكوتين

بدأ أسلوب المقاهي في مصر يتغير من مكان للتدخين ولعب الطاولة إلى مشروعات ثقافية وفنية تشبه النوادي تستبدل أنبوب النرجيلة بفرشاة الرسم، والفحم المشتعل بقطع السيراميك والورق والألوان، بعضها بات أشبه بمكتبة مفتوحة لا تختلف عن التقليدية إلا في حرية الكلام، وتناول المشروبات دون تقيد بلافتات ممنوع الحديث أو محظور اصطحاب المأكولات.

القاهرة- تكتسب المقاهي الفنية زخما مستمرا مع التحركات الحكومية لمحاربة التدخين ورفع أسعار السجائر بنحو 680 بالمئة السنوات الماضية، وتبني السلطات المحلية قرارات بغلق العديد من المقاهي المخالفة والمرخصة التي تقدم النرجيلة، لتسببها في الإزعاج للمناطق السكنية المجاورة ومخالفتها للشروط البيئية والصحية.

وافق البرلمان المصري أخيرا على مشروع قانون يحظر تقديم النرجيلة بمحال بيع أو تقديم المأكولات أو المشروبات لعموم الجمهور، إلا بعد الحصول على تراخيص وسداد 10 آلاف جنيه (555 دولارا) رسوما، بينما يدرس مشروع قانون آخر يطالب بإغلاقها قبل منتصف الليل، حفاظا على إنتاجية الموظفين الذين يسهرون في رحابها إلى صباح اليوم التالي.

وتثير القرارات الحكومية جدلا تحكمه المصلحة بين المقاهي ذات النشاط الفني، والتي تؤيدها كحافز لانتشار ثقافة القراءة وممارسة الفنون، بينما يشكو أصحاب المحال التقليدية الشعبية من عدم قدرة زبائنها على تحمل رفع الأسعار لتلبية الاشتراطات الجديدة، ما يهدد نشاطها كمكان يتحرر فيه المواطنون من ضيق الشقق السكنية وضغوط الحياة بالجلوس مع الأصدقاء والتنفيس عن الغضب والكبت والإحباط بنفث الهواء الساخن.

وتشن السلطات المحلية حاليا حملات مكثفة لإغلاق المقاهي التقليدية لأسباب متباينة؛ بين غياب الترخيص أو مخالفة الشروط الصحية التي وضعتها الحكومة لتنظيم عمل نحو مليوني مقهى ينفق روادها نحو 186 مليون دولار شهريا، وفق بيانات رسمية تؤكد أيضا وفاة 170 ألف مصري بسبب التدخين سنويا وإنفاق الدولة 167 مليون دولار على الأمراض المترتبة عليه.

وأغلقت محافظة الإسكندرية الساحلية ثمانية مقاه بسبب التراخيص، واتخذ محافظ الدقهلية بدلتا مصر قرارا بوقف كل مقهى يسبب إزعاجا للسكان، ولو كان مرخصا، وأعلنت محافظة الوادي الجديد في جنوب غرب البلاد عن استطلاع للرأي حول موعد إغلاق المقاهي للاستفادة من طاقات الشباب المهدرة، شريطة ألا يزيد عن الـ12 مساء.

وتتفق الأنماط غير التقليدية من المقاهي على محاربة النرجيلة، فمن يريد تقديمها عليه توفير اشتراطات تمنع باقي الزبائن من التعرض لأخطارها بأجهزة لشفط الهواء وستار بلاستيكي أو زجاجي يعزل أماكن المدخنين، ويطالب البعض بإلغائها حفاظا على الصحة العامة ونقلها الأمراض لتبادل فوهاتها بين الزبائن دون فلاتر بلاستيكية، وعدم تغيير المياه أو غسلها باستمرار ما يجعل أضرارها تفوق السجائر.

مفاهيم جديدة

المقهى فضاء عائلي
المقهى فضاء عائلي

في حي مصر الجديدة الراقي بشمال القاهرة، يقبع “البينيللو سيراميك”، الذي يعتبر مقهى ومطعما ومرسما في الوقت ذاته، فالزبائن يمكنهم اختيار ما يريدون من منتجات مصنوعة من السيراميك، مثل أكواب الشاي والقهوة والأطباق المتراصة على أرفف خشبية بجوانب المكان، والبدء في الرسم والتلوين عليها أثناء تناول طلباتهم وغالبا ما يقضون فترات قد تصل إلى ثلاث ساعات في ممارسة تلك الأنشطة.

وتتماشى فكرة البينالي مع الشيوع الذوقي لمادة السيراميك وتحولها كتحف فنية على جدران المنازل المصرية وزيادة الطلب عليها بالمزادات والمتاحف وأصحاب المجموعات، في محاكاة متأخرة للغرب الذي اهتم بتلك المادة وخصص لها معارض ومتاحف.

يقول رامي محمود مدير المقهى إن شعار المكان “الريشة تحارب الشيشة (النرجيلة)” فلا مجال للتدخين داخله، فاليد التي ستحمل الأنبوب يمكنها أن تمسك فرشاة الرسم وتختار قطعة يتراوح سعرها بين 65 و220 جنيها (2.3 و12.25 دولار) وتلوينها قبل أن تتم إضافة مادة لامعة عليها وإدخالها في فرن حرارته 950 درجة لتتحول إلى قطعة فنية بألوان ثابتة يحصل عليها صاحبها في غضون أربعة أيام.

وتبدو المشكلة التي تواجه المقاهي الفنية ارتفاع أسعار المنتجات التي تقدمها التي لا تقل عن 35 جنيها (2 دولار) بجانب تكلفة القطعة المنحوتة عكس المقاهي التقليدية الشعبية التي تزيد تكلفة المكوث في رحابها، مهما كان الوقت عن 3 جنيهات (16 سنتا) ثمن مشروب الشاي الواحد، علاوة على تركزها في مناطق راقية بعيدة تجعلها مقتصرة على سكان المناطق القاطنة بها فقط.

ويوضح محمود لـ”العرب” أن المكان يجتذب جميع الأعمار من عمر 5 سنوات وحتى 60 عاما بخامات مستوردة من الخارج وتخضع لاشتراطات وزارة الصحة، كما يعتبر مثاليا للقراءة والمذاكرة لطلاب المدارس والجامعات لأنه يخلو من شاشات التلفاز والإضاءة المرتفعة، ويمتاز بإضاءة خافتة لخلق طابع من الهدوء.

هوايات متنوعة

ليست مفخرة ولا تسلية
ليست مفخرة ولا تسلية

في حي المعادي بجنوب القاهرة، أسس مهندس معماري يدعى فتحي السيد قبل أيام مقهى جديدا يحمل اسم “آرت كافيه”، يتخلى بمساحته الضيقة عن المفاهيم التقليدية للمقاهي كمكان للتدخين يعج بأصوات قطع الدومينو على الطاولات الخشبية أو صراخ الاختلاف على التلاعب بنرد الطاولة أو مناداة العمال المستمرة بتغيير قطع الفحم، ليقدم مضمونا ثقافيا وفنيا يجتذب قطاعا من الشباب والأطفال وأسرهم.

ويشير السيد لـ”العرب” إلى أن الفكرة هدفها توفير أجواء من الحرية والراحة للزبائن شبيهة بالمنزل لممارسة هوايات الرسم والغناء أو حتى تنمية ألعاب الذكاء كالشطرنج، بمعنى آخر مكان لتمضية الوقت في نشاط مفيد للموهوبين بإتاحة لوحات وألوان مجانية، ومنح الفرصة لأصحاب الأصوات الجميلة بالغناء.

وتعلي هذه المقاهي من فكرة الفن، ولا تغفل توافر بعض المقومات الأساسية، مثل شاشات عملاقة لمشاهدة المباريات بعدما تحولت من نشاط ذكوري إلى أسري بحرص العائلات على متابعة الأحداث الرياضية الهامة خارج المنزل، لكنها لا تقدم النرجيلة أو تسمح بالتدخين، حفاظا على الصحة العامة وتضع اشتراطات على نوعية الغناء المقدم.

ويضيف السيد أن المقهى يوفر فرصة عرض اللوحات بعد الانتهاء منها على جدار مخصص لتشبه المعرض المفتوح أو قاعات الجاليري، مع تنظيم فعالية سنوية يتم خلالها عرض جميع الأعمال الفنية التي ينتجها المترددون على المقهى وتتسم بالتنوع، بين البورتريه والمناظر الطبيعية واللوحات التعبيرية، يشبه الحصاد الفني.

وتحاول بعض المقاهي المساهمة في نشر العلوم مثل “سلينترو” بالجيزة الذي نظم ما يسمى “المقهى العلمي” نهاية ديسمبر الماضي، بحضور العشرات من المهتمين بالعلوم الطبيعية والجيولوجيا للاستماع إلى محاضرة علمية عن الديناصورات، بالتزامن مع اكتشاف الديناصور المصري “منصوراصورس″ تحت شعار “اشرب مشروبا واحصل على معلومة”.

اليد التي تحمل أنبوب الشيشة يمكنها أن تمسك فرشاة وترسم لوحة فنية بألوان ثابتة
اليد التي تحمل أنبوب الشيشة يمكنها أن تمسك فرشاة وترسم لوحة فنية بألوان ثابتة

وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق دعاية إيجابية للأنماط الجديدة من المقاهي ما يجنبها مصير محاولات سابقة فشلت في الاستمرار كمقهى “كابنشي” بحي مصر الجديدة، والذي اعتمد على تقديم كتب للزبائن لقراءتها أثناء تناول المشروبات، لكن المشروع تعرض للإغلاق بعدما اكتفى القائمون عليه على وسائل دعاية تقليدية بلافتات قليلة بشوارع المنطقة.

ويؤكد أصحاب المقاهي التقليدية أن الأماكن التي تحارب النرجيلة جمهورها من الصفوة وذوي الملاءة المالية الذين يدخنون “الشيشة والسجائر الإلكترونية” ولا تراعي احتياجات جميع الجمهور، فإذا كان الشخص لا يعرف الرسم فما العائد الذي يطوله من التوجه إليها؟

ويرى هؤلاء أن محاربة النرجيلة بالمقاهي الفنية لا تعني نهايتها فالكثير من المواطنين يمارسونها في المنازل وأعدادهم زادت منذ قرارات رفع أسعار الغاز والكهرباء التي دفعت المحال لرفع أسعار مشروباتها.

وتحمل النرجيلة تاريخا طويلا بمصر يعود لعصر الدولة العثمانية وتعززت أوضاعها عبر السينما والدراما التي أكسبتها صفات ذكورية صرفة، فلا تكتمل الصورة الذهنية للخبير بصناعته “المعلم” إلا إذا اتكأ على كرسي ضخم واضعا رجلا فوق الأخرى، وممسكا بخرطوم النرجيلة التي يجلس بجوارها فتى صغير يفترش الأرض ويتولى تغيير قطع الفحم أو اصطناع تيار هوائي يبقيه مشتعلا بقطعة من الورق المقوى.

ويقول محمد علي، صاحب مقهى بمحافظة الغربية في دلتا مصر، إن الاشتراطات الجديدة لا تراعي الأوضاع الصعبة التي تعاني منها المقاهي الصغيرة في المناطق الشعبية الفقيرة التي لا يزيد سعر قائمة طلباتها عن الثلاثة جنيهات، فمكاسبها الشهرية ضئيلة بعد خصم أجرة العمال والكهرباء والمياه واشتراكات القنوات الرياضية وخدمات الإنترنت التي لا غنى عنها للحفاظ على الزبائن بجانب الضرائب ورسوم تجديد التراخيص.

وتسعى الحكومة عبر قانون ترخيص المحلات لزيادة الاستثمارات وحصر الاقتصاد غير الرسمي بنصوص تحظر فتح أي محل تجاري أو تغيير غرضه أو مكانه إلا بترخيص وأداء رسم معاينة قد يصل إلى 100 ألف جنيه (5.5 ألف دولار)، وحال صدور ترخيص لأول مرة يتم استخراج سجل تجاري وبطاقة ضريبية وتأمينات اجتماعية ورسم هندسي وشهادة صحية حال تقديم مواد غذائية.

للنرجيلة تاريخ طويل في مصر يعود إلى العصر العثماني، وتعززت أوضاعها عبر السينما والدراما كصفة من صفات "المعلم"

يحذر أصحاب المقاهي من وجود تمهيد بإلغاء النرجيلة التي باتت عنصرا سياحيا، فالسائحون لا ينهون رحلاتهم إلا بالمرور على مقاهي القاهرة القديمة وتدخينها ليتنفسوا دخانها مع عبق التاريخ، وتفحص المارة والمنازل، حتى لجأت بعض فنادق الخمسة نجوم للاستثمار بها، وفتح أماكن ملحقة لتقديمها، ولا تخلو شوارع الجيزة المتاخمة للقاهرة من مقاه تقدم النرجيلة للزوار الأجانب.

ويؤكدون أن المقاهي التي يمتلكونها ليست مكانا لتقديم المشروبات فقط، بل هي مقار للحرية والتعبير، وتجذب محال وسط القاهرة جمهورا من المثقفين الذين يتراصون للتناقش في كل أمور الحياة، سياسية واقتصادية، وكانت الحاضن الرئيسي لجلسات الشباب في أيام ثورة 25 يناير 2011 للاستراحة وتناول الطعام والحوار.

ويضيف محمد النجم، صاحب أحد المقاهي بالجيزة، أن توقيت القرار جاء صدمة لمن ينتظرون بطولة الأمم الأفريقية في شهر يونيو المقبل بفارغ الصبر لزيادة الزبائن الذين يفضلون متابعة المباريات مع غيرهم في المقاهي.

ويبدو أن المقاهي الفنية قد تثبت أقدامها بمصر، كبديل للمقاهي التقليدية بعدما تولى مسؤوليتها شباب يراهنون على الأفكار الجديدة والتعلم من تجارب الآخرين الفاشلة، كخطوة للنجاح حتى لم يكن من المستغرب تقديم بعض المكتبات مشروبات ساخنة لروادها أو اجتذاب مقاه لحفلات توقيع الكتب أو حتى لجوء باعة كتب الأرصفة والجرائد لوضع معدات صناعة الشاي ليكون التصفح السريع لمن لا يرغب في الشراء متاحا مقابل تناول مشروب واحد فقط.

20