الغباء المشترك

الكُتاب، في رأي فيراريس، هم أكثر الناس غباء، لأنهم يتميزون عن باقي الأغبياء بترك أثر مكتوب كدليل ملموس على غبائهم.
الخميس 2019/01/17
الإنترنت يعطي حق الكلام لمتوج بجائزة نوبل بنفس القدر الذي يعطيه لفيلق من الأغبياء

في كتاب طريف بعنوان “الغباء مسألة جدّيّة“، يؤكد الفيلسوف الإيطالي موريسيو فيراريس أن الغباء حالة عامة، لا يُستثنى منه أحد، حتى الفلاسفة والمفكرون، بل هو أكثر ما يشترك فيه الناس ولو أنهم لا ينتبهون غالبا إلا لغباء الآخر، ويضيف أن أسطورة الخلق والابتكار هي أهمّ أسباب الغباء، لأنها تسعى إلى إبراز حالة عادة ما تكون مستترة، نائمة، صامتة، لا يعلم بوجودها حتى صاحبها نفسه.

هذا الكتاب استوحاه فيراريس من حادثة بسيطة كان بطلها أمبرتو إيكو في يونيو 2015، أي قبيل وفاته ببضعة أشهر، عندما أسندت إليه جامعة تورينو الدكتوراه الفخرية، وألقى بالمناسبة محاضرة رائعة عن التأويل المفرط الذي يتداوله القائلون بنظريات المؤامرة، ولكن ما علق بأذهان الناس، واستشرى عبر المواقع الاجتماعية في شتى أنحاء العالم حتى بات مثار جدل حامي الوطيس بين مناصر ومعارض، هو ردّ مقتضب على بعض الصحافيين الذين أحاطوا به عقب المحاضرة، قال فيه إن الإنترنت يعطي حق الكلام لمتوج بجائزة نوبل بنفس القدر الذي يعطيه لفيلق من الأغبياء، كانوا فيما مضى يخوضون نقاشات لا تتجاوز الحانات ولا تلبث أن تتبخر من ذاكرة الأطراف المخمورة. أما اليوم، فإن تلك التعليقات تنتشر في كل مكان، وتبقى الشتائم إلى أبد الآبدين.

هوجم إيكو واتّهم خاصة بكونه يرمي مستعملي الإنترنت بالجهل والغباء، والحال أنه لا ينكر أن “فيالق الأغبياء” كما يقول كانت موجودة قبل الإنترنت، ولكنها كانت صامتة، لا تشذ عنها سوى أقلية كانت تستغل علاقتها بوسائل الإعلام لتظهر في الواجهة بين الحين والحين، دون أن يكون ذلك الظهور دليل ذكاء، وإن كان يمنحها شعورا بأنها أمام جمهور.

بعكس الإنترنت الذي فتح الباب على مصاريعه كلها، فإذا الناس جميعا يتكلمون وكأنهم يتجاذبون أطراف الحديث في بيوتهم عن أي موضوع يعنّ لهم، فينتقلون من السياسة إلى الرياضة، ومن السينما إلى غلاء المعيشة، ومن الموضة إلى مشاكل الحي الذي يقطنونه دون رابط ولا دليل نفي أو إثبات. والأدهى أنهم يكتبون أيضا دون أن يصحح أحد أخطاءهم، أو يردهم عن حماقاتهم، ويكذب ادعاءاتهم، لندخل عصر “ما بعد الحقيقة” بقدم ثابتة.

 أي أن الغباء ليس وليد التقنيات الحديثة، ولكنها ساهمت في إبرازه. ومن ثَمّ، فإن الكُتاب، في رأي فيراريس، هم أكثر الناس غباء، لأنهم يتميزون عن باقي الأغبياء بترك أثر مكتوب كدليل ملموس على غبائهم، وأن الأعوام القادمة سوف تشهد توثيقا لكمّ الغباء المستشري في المواقع الاجتماعية.

15