تونس: مسار الثورة المتعرج والطريق نحو المجهول

تتسع دائرة التضييق على التونسيين يوما بعد آخر وسط اضطراب في المشهد السياسي يصعب كسر الطوق عليه لفهم حيثياته مع تزايد موجة الاحتجاجات والإضرابات بما ينذر بتفاقم الوضع أكثر ودخوله طريق المجهول.
أسباب هذه الاحتجاجات معلومة وحيثياتها تأصيلها مكشوفة قياسا بالمناخ العام الذي يسود تونس ودول عربية أخرى ويمتد إلى أوروبا وبقاع أخرى من العالم.
يلخص هذه الاحتجاجات سقف المطلبية الشعبية المتزايد بشأن التشغيل وتحسين الوضع المتردي، فيما الأهم كسر حالة التهميش التي أضحى التونسيون يتحسسونها في عدة مناطق وخصوصا الداخلية منها وتبدّد آمالهم في غد أفضل مثلما تعد بذلك حكوماتهم المتعاقبة.
على النقيض من هذا الطرح يتكشّف للتونسيين هول الفساد الضارب في أعماق الدولة والذي نخر أجهزتها وغطى على كل مسعى جاد لاحتواء مقدراتها والدفع بها نحو أفق أرحب تتحسن معه أوضاع البلاد والعباد.
في هكذا ظرف متقلب يقف التونسيون على تخوم ثماني سنوات من اندلاع ثورتهم “المغدورة”.. هذا المعنى يتجسد حقيقة في منتجات ما بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 2011. وكأن الثورة ارتدت على أصحابها أو المطالبين بقيامها.
شيء من اللايقين يضع قارئ السطور التي صدحت بها الحناجر أيام الثورة “شغل، حرية، كرامة..” وغيرها، أمام حتمية مغلوطة أو أنصاف حلول زاحت بالثورة عن مسارها الحقيقي الذي بعثت من أجله. لا بَلْ تكفي مغالطة. الثورة خُطفت. ولم تتبق سوى أصداؤها في الأذهان، يردّدها هذا وذاك بمفعول رجعي ينسب مداه إلى يقين بأن الثورة مهما كان باقية وتتمدد ربما في العقول فقط.
معنى هذا الحديث لا يتجه ناحية بداهة فلسفية أو تأصيل لغوي موغل في التراجيديا لفهم الواقع التونسي، إنما وعي يتكشّف معناه مع كل لحظة آتية تمر بها تجربة الديمقراطية الكأداء في تونس.
يكفي الاستدلال بمجموعة من المؤشرات للوقوف على حقيقة الثورة “المسلوبة” في تونس: أول هذه المؤشرات تبدّد الآمال بـ”كذبة” الثورة التي استخلص التونسيون زيفها وانتهوا إلى حقيقة أنهم لم يغيروا سوى رأس النظام. النظام الذي تغير فقط في عقولهم هم، لكن الدولة العميقة باقية وتتمدد.
المؤشر الثاني يفرض نفسه وتعبر عنه الحصيلة الهزيلة لواقع التنمية والانتقال الديمقراطي المتلكئ وغيرهما من مفاعيل المحاصصة بين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والتي عمّقت الشرخ الحاصل بين التونسيين على اختلاف توجهاتهم ورؤاهم.
أما المؤشر الثالث فيتعلق بمآلات التقارب المغشوش بين أكبر حزبين النهضة والنداء من ناحية وارتدادات الطلاق الذي أدخل البلاد في دوامة تصفية حسابات حزبية وأزمة بين رأسي الحكم في تونس قويت مفاعيلها في الفترة الأخيرة منذرة بانسداد أفق الحلحلة وتعمّق الهوة أكثر نحو أطروحات ومكاشفات وحرب صراع من أجل البقاء.
في هذا مستوى من الأزمة المستفحلة على جميع الأصعدة في تونس، اقتصاديا، سياسيا واجتماعيا تكاد الدولة تكون غائبة ولم تستعد هويتها الأصلية التي خبرها التونسيون وتعايشوا معها لسنين طوال. يتساءل الكثيرون عن تونس التي يعرفونها ولم تعد كذلك.
تساؤل فيه الكثير من الإيحاء بغياب الدولة. غابت الدولة أم هي مغيّبة؟ لا أحد من التونسيين أضحى يستسيغ أو يستوعب هذه الفكرة اليوم. لكنها لم تعد كما كانت عليه في الأمس القريب! نعم لم تعد كذلك. الكل يتساءل عن معنى هذه العدمية التي أفقدت الدولة حضورها.
منطلق الحديث تفسّره رؤية الشارع بوضوح. تتفق الآراء التي يلحظها أي متابع لمواقف التونسيين وانطباعاتهم وتفاعلاتهم حول الوضع الذي تمر به تونس آنيا على أن هناك حنينا إلى الماضي بما يحمله من معان. الأكيد أن ذلك يحمل الشيء الكثير للتونسيين. ضبابية المشهد وانحسار الأفق والأزمات المستفحلة كلها عوامل دافعة نحو هكذا رؤية وهكذا تفكير.
لتحليل الأبعاد التي أوصلت إلى هكذا نظرة لا بد من استحضار التاريخ الطويل لأزمة الحكم في تونس وأزمة الفاعل السياسي بدرجة أولى. الأزمة على مطباتها المتعددة وتدحرج كرة الثلج فيها عميقة جدا ومتوارثة ولا تكاد في بنيتها تتوقف على البورقيبية وما خلفته من فوارق اجتماعية بين الجهات وإرث بن علي وما تركه من إرهاصات ظن التونسيون أن الدولة ستنهض بعدها، لكنهم اكتشفوا أن الدولة لا تزال قائمة فقط في مخيلاتهم هم دون سواهم.
تناست الطبقة السياسية هموم الشعب وباتت تبحث وراء مسوغات تتخفّى وراءها، رغم أن هذا الكلام لا يحجب حقيقة أن مسار الانتقال يجب أن يأخذ مجراه الطبيعي ببقاء هذه الطبقة السياسية أو زوالها بلا رجعة، الأمر سيان. تعقيدات بيروقراطية وأسلوب مماحكة وتفصّ من المسؤولية يضعان الدارس للمشهد السياسي في تونس أمام رؤية ضبابية وتعتيم على المشاكل الحقيقية تقودها الطبقة السياسية، بإدراك منها أو دونه.
الخلاصة بعد مسار ثماني سنوات من “الهبّة الشعبية” في تونس وتغيير نظام الحكم فيها أن الثورة قبرت وشيّعت إلى مثواها الأخير، فقط صداها هو ما يتردد ويعيد إلى الأذهان ذلك الخيط الناظم بين جدار البناء والهدم، وهو ما يردده التونسيون اليوم دون تبيّن آثاره على أرض الواقع.