كلام الناس سلاح يخرب البيوت ويهدد العلاقات

تختلف آراء المختصين النفسيين وبعض أفراد المجتمعات العربية سواء كانوا إناثا أو ذكورا حول مدى تأثير كلام الآخرين في شخص كل منهم، فهناك من يسبب له القيل والقال والنميمة جرحا غائرا يغيّر له مسار حياته، وهناك من يحاول مجارة الركب المجتمعي القائم على جملة من الظواهر السلبية، في حين يرى عدد من الأشخاص أن ثقته وقناعاته بنفسه تتغلبان على أي طارق أخطأ الباب.
لندن - "هناك أناس.. حتى وإن شافوك ماشي مع بقرة قالوا: أكيد يوجد شيء بينكما” كثيرا ما كانت هذه المقولة سببا في تحطيم أسس بنيان أسري قائم بذاته، فبعض الأشخاص لا يهدأ له بال حتى يعاين انهيار حياة الآخرين وسلامهم الأسري والعملي ببضع كلمات غير مسؤولة، وأحيان كثيرة خالية من الصحة.
وتوجد في النسيج المجتمعي العربي مجموعة من الآفات المعشّشة فيه تتوارث أبا عن جد بشكل آلي ما دامت هذه المجتمعات لم تقوض أسسها وظلت متمسكة بنواميس غير مواكبة لتحولات العصر الكبرى.
وفي السابق كان عدد كبير من العائلات يجمعها منزل واحد شاهد على الامتداد العميق لجذور الشجرة العائلية، وسهّل ذلك على بعض الأبناء تبني سلوكيات سيئة بدأت غالبا بسؤال بريء ماذا تفعل أمك؟ ماذا أكلت عند زوجة عمك؟ وهكذا يصبح الطفل بيئة خصبة لتصيّد هفوات الآخرين مستقبلا ونقل الكلام يمنة ويسرة.
ليس نقل الكلام فقط ما يميّز هذه السلوكيات بل وأيضا نشر الفتن بين الناس والأخبار المزيفة وهو ما يغذي آفتين بين خلايا المجتمعات وهما القيل والقال والنميمة.
وبين سطوة التسليم بأقوال الآخرين والتمسك بالقناعات الشخصية والثقة في النفس يسقط عدد من الضحايا وتفشل الكثير من الزيجات، وتتحطم قلوب.
إرضاء المجتمع بتوخي الحذر من كلام الناس واجب على الرجل والمرأة، فلا فرق بينهما لأنهما في النهاية يخضعان للأعراف ذاتها
وترى سمية السيد امرأة مصرية “أنا ممن يسلمن بسطوة كلام الناس، فهو في حياتنا بمثابة القانون الذي يحكمنا ويسيّرنا ويوجه خطواتنا وفق نصوصه وأعرافه، وإلا شاعت الفوضى وانعدم النظام بين صفوف البشر، فالناس لا يرحمون المرأة، وهذا ما يجعلني حريصة على مسايرة العقلية الاجتماعية السائدة، فأتعمد ألا أعود إلى البيت في وقت متأخر، إلا برفقة زوجي، وعدم الخروج مساء مع بناتي من دونه، كي لا أدفع الناس إلى الخوض في القيل والقال، لأدفع بعدها ثمن تعليقاتهم".
وأكدت “نخطئ حين نقول إن كلام الناس لا يؤثر فينا، فكلام الناس يقدم ويؤخر في حياتنا، وهو ما يجعلنا مضطرين إلى انتهاج سلوكيات، والقيام بأشياء لسنا مقتنعين بها، فقط لنحمي أنفسنا من كلامهم".
وتصر نورا محمد، موظفة بأحد البنوك، “يجب علينا ضرورة الانضمام إلى ركب القافلة الاجتماعية، وإلا فلنرحل إلى جزيرة بعيدة لنعيش بمفردنا، فنحن نعيش تحت مجهرهم، وأخطاؤنا مهما كانت صغيرة، ستبدو لهم أضعاف حجمها الحقيقي، الأمر الذي يجعلني، وأنا واحدة من المدركات لخطورة موقف المرأة في مجتمعنا، أتجنب الوقوع في الخطأ، حتى لا أحاسب من منظورهم القاسي".
وفي حين يسلّم البعض بأقوال الآخرين لمجارة الركب المجتمعي السائد، فإن عددا آخر من الأشخاص يسير وفق قناعاته ولا تؤثر فيه أقوال الآخرين ولا غمزاتهم ولمزاتهم.
وتقول عبير يحيى، أخصائية تسويق، إن "كفة الناس في حياتي لا ترجح أبدا على كفة قناعاتي، وطريقتي في التفكير، الأمر الذي يضع بيني وبينهم حاجزا عاليا، يمنعهم من التأثير في بالشكل الذي يريدونه، قد يحاول البعض تخطي هذا الحاجز، أو كسره، لكني أقف أمامهم بحزم، خاصة إذا تعلقت المسألة بالمساس بحياتي الخاصة".
وأكدت “إذا كان كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر عندي، فالسبب في ذلك يعود إلى ثقتي بنفسي التي تدعم أفكاري وتساعدني على الثبات على موقفي".
وكشف باحثون أميركيون أنه يمكن التغلب على رغبة النساء الشديدة في مشاركة الثرثرة والأنباء المثيرة للجدل بمجرد سماعها، وعادة ما ينقلن الأسرار إلى شخص واحد على الأقل خلال 47 ساعة و15 دقيقة كحد أقصى.
ووجدت الدراسة التي أجريت على 3000 امرأة أميركية، تتراوح أعمارهن بين 18 و65 سنة، أن 4 من كل 10 نساء، اعترفن بأنهن غير قادرات على الاحتفاظ بسر، بغض النظر عن مدى سرية أو حساسية هذه الأخبار.
وفي مجتمعات تربط آفة القيل والقال بنسائها بامتياز، يرى بعض الرجال أن الأمر يسيء للمرأة والرجل على حد السوء، حيث أشار محمد فريد، موظف بالقطاع الخاص، إلى أن “إرضاء المجتمع، وتوخي الحذر من كلام الناس، واجب على الرجل والمرأة معا، فلا فرق بيننا لأننا في النهاية نخضع للأعراف ذاتها، وإن اختلفت درجة المحاسبة وطريقتها بين الرجل والمرأة، وأعتقد أنه ليس صعبا علينا مسايرة الناس ضمن المعقول وبشكل يحفظ احترامنا ولا ينتهك خصوصياتنا، فقد علمتني الحياة ضرورة الأخذ بالحواجز القائمة بين الناس، حتى لا يتجاوز أحدهم حدوده مع الآخر".
وفي حين شدّد عبدالله محمد، طبيب، على أنه لا يسمح “لكلام الناس أن يزعزع مبادئي ولو أثر ذلك سلبا في حياتي، إن المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه لا يمكن أن يقدم على إلحاق الأذى بالرجل، كما قد يفعل مع المرأة".
وقالت د. انشراح دسوقي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، عن كلام الناس وأثره على المجتمع “كلام الناس خاصية بشرية تتميز بها الكثير من المجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء، ولكن في مصر والمجتمعات الشرقية عموما نجد أن هذا الكلام ينتج من الفراغ".
وأضاف د. يحيى الرخاوي، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة “المجتمع الذي نعيشه يفرض علينا النظر لأحوال بعضنا، كوننا نعيش في لحمة واحدة”.
وأوضح “كلام الناس السلبي يؤخر من يستمع له ولا يقدمه، فهو مجرد انتقاد جارح فارغ لا يحمل حلولا للمشكلات، ولا يتضمن بلسما يداوي الجروح، وربما كان هؤلاء الناس ممن لا يحملون كرها للآخرين، لكنها طبائع سيئة جبلوا عليها، لذلك كان الهروب من مواجهتهم يزيد وقع كلامهم السلبي على ذواتنا”.
وأكد الرخاوي على ضرورة “مواجهتهم حتى لا نخسر أنفسنا ونخسر ما نحب، كاستجابة لهم، كما علينا عند مواجهتهم ألا نستسلم لكلامهم بل يتم الرد بطريقة مهذّبة نكسب فيها ذواتنا، ولا نخسر من يحبنا، أما من يتحدث في ظهورنا فلا حاجة لنا به، ومتى ما وعى الإنسان ذلك لم يتردد في خوض ما يريد، مادام لم يخالف شرعا ولم يبتدع منكرا”.
وعلى الرغم من الآثار السلبية للقيل والقال والنميمة، فإن دراسة إيطالية نشرت في العام 2017 بشّرت أصحاب النفوس المريضة بأن سلوكياتهم هي مصدر سعادة لأدمغتهم، حيث خلصت نتائجها المثيرة للجدل إلى أن النميمة والقيل والقال والثرثرة، بشكل عام مفيدة ومفرحة للدماغ.
وأوضح العلماء من مقاطعة بافيا (شمال إيطاليا) أن النميمة مع الأصدقاء مفيدة وجيّدة بالنسبة للأشخاص، حيث أبانت نتائج الدراسة، أن تبادل أخبار الآخرين يرفع من مستويات هرمون الأكسيتوسين ويسمّى هرمون الحب، وذلك بالمقارنة مع مستوياته في ظل المحادثة العادية.
كما درس علماء النفس آثار القيل والقال على مجموعة من النساء، ووجدوا أن دماغ المرأة يفرز كميات أكبر من هرمون الأكسيتوسين بعد النميمة، وهذا الهرمون يساعد على توثيق الصلة مع الأشخاص المقربين.
وبحسب موقع “روسيا اليوم”، قالت الدكتورة ناتاسكيا بروندينو، المؤلفة الرئيسية للدراسة، إنها ترغب في دراسة تأثير النميمة على الدماغ، وذلك بعد ملاحظتها أنها شعرت بالراحة والتقرب من زميلاتها بعد الثرثرة.
وأشارت إلى أن التأثير الناتج عن النميمة لا يتغيّر مع تغيّر شخصية الفرد، فعلى سبيل المثال، لم يؤثر ارتفاع هرمون الأكسيتوسين الناتج عن النميمة على تغيير صفات وحالات معيّنة مثل الحسد والتوحد والتعاطف.