لا تحرق نفسك..

أحرق تونسي آخر نفسه. لم يتغير شيء. ذهب شخص آخر ضحية التقليد. أراد عبدالرزاق رزقي أن يُقلّد محمد البوعزيزي لعله يفجّر ثورة. الثورة لم تحدث. ولو أنه يستطيع من مدفنه أن ينظر إلى النتيجة، فإنه سوف يأسف على نفسه، قبل أن يأسف على حال تونس التي أضحت ألعوبة بيد جماعات الإرهاب و”الإسلام السياسي”.
كل تقليد غبي. ليس لأنه يفتقر إلى الأصالة، بل لأنه لا يثير من المشاعر ما يمكن أن يفعله عمل أول. ولأن عنصر المفاجأة يغيب عنه، فيتحول بذلك إلى تكرار لا يمكنه أن ينتج صدمة.
قبلك يا عبدالرزاق فعلها أكثر من واحد. لم يتغير شيء، لا في تونس ولا في غيرها. لقد امتصت حادثة البوعزيزي كل الانفعالات، وكانت كافية لكي تحدث انقلابا هائلا في مستنقع الركود السلطوي في العالم العربي.
ما حصل، هو أن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي حاول أن يبني تصوّرا لتونس متوسطية أو جنوب-أوروبية، كما بنى تصورا مخمليا لنفسه أيضا، فلم تأخذه حمية الدفاع عن الكرسي كما فعل طغاة آخرون. فوقع على سيفه. لم يشأ أن يزعم أن هناك مؤامرة، ولا عناصر تخريبية تقف وراء الحريق الذي ألهب البلاد، كما يفعل اليوم بعض الذين ألفوا إطلاق الرصاص على صدور المتظاهرين، أو اغتصاب أمهاتهم. أشياء كهذه لا تزال تحدث. وتحدث إعدامات بالجملة لمعارضين، أو لمتهمين بالمعارضة، بل حتى لمواطنين آمنوا بأنهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فخسروا الناقة والجمل، كما خسروا بلادهم كلها.
هناك محمد البوعزيزي واحد، سجّله لنا تاريخ هذه المنطقة. واحد، ولن يتكرر. أي أن أحدا آخر لن يمكنه أن يجلس على ناصية السجل في جواره. ولك أن تُدرك أنه حتى وإن أشعل ثورة، تحولت بدورها إلى ثورات، فسرعان ما سقطت الثورة في حضن جماعات تقول: إما نحن أو الإرهاب.
لم تسفر التضحية الجمّة التي قدمها البوعزيزي إلا عن ثمار مُرّة. فبأي معنى يمكن لأي أحد، من بعده، أن يجعل من حرق نفسه مصدرا لثمار حلوة. هذا لن يحصل. فلا تحرق نفسك. الناس لن تنتفض لكرامة مجروحة. الكرامة اليوم مذبوحة. ذبحها بشار الأسد بأرخص ما يمكن للخراف أن تذبح. حوّل بلاده إلى مسلخ. فمن شاء أن يبقى خارج المسلخ، فإن عليه أن يعيش حياة أقرب إلى الموت من الموت نفسه.
وفعل طغاة آخرون الشيء ذاته. جماعات “الإسلام السياسي” التي تولت السلطة في العراق، ذبحت شعبا بأسره. وظلت تذبح به، نهبا وفسادا واغتيالات كل يوم. وها هو البشير، يستلهم المجزرة، فيخاطب شعبه بأنه مدفوع من الخارج. هو المدفوع له من الخارج علنا لا سرا.
ينقصنا شيء آخر. أن نسترد الحرية التي سرقها لصوص الثورات. ينقصنا إصرار على الحياة، لا إصرار على الموت. ينقصنا أن نهدي المظلومين عملا، فكرا، أو كلمة حرة نصرخها دون خوف أو وجل.
الذين يستلهمون الموت، ويخدعون الشباب به لملاقاة السبعين حورية، هم الذين وضعوك على هذه الحافة. فلا تحرق نفسك. الحوريات لا ينتظرن المنتحرين. المنتحرون تنتظرهم جهنم.
الموت ليس هو الحل. مثلما أن “الإسلام” (أعني، إسلامهم الأعوج) ليس هو الحل.
الحياة هي الحل. الحرية والكرامة هما الحل. والعدل والإنصاف. ومن الخير ألا تحولهما إلى رماد ندفنه معك.
فلا تحرق نفسك. قم لتناهض القهر. فأنت لست وحدك. قم لتقف في وجه أولئك الذين حولوا الإسلام إلى جريمة. فأنت لست وحدك. قم لتسترد ما اغتصبوه من حقك في العيش الكريم. فلماذا تهديهم موتك؟
ينقصنا أبطال، من أولئك الشبان الذين لم يعد بوسع أحد أن يخدعهم بالشعارات الزائفة ولا بالصلوات الزائفة. الشبان يعيدون ابتكار الحياة. ويبتكرون لها أسبابا لكي تنتصر. فلا تحرق نفسك، إنه عمل لو فعلت، غبي.