أهالي الجيزة خائفون على أعمالهم من خطط تطوير الأهرامات

يعيش أهالي منطقة نزلة السمان بجانب الأهرامات بمحافظة الجيزة المجاورة للقاهرة مأساة اجتماعية بعد أن أسسوا بيوتهم كي تشهد على تحدي الهرم الأكبر للزمن، شرفاتهم مرصوصة لتستقبل أشعة الشمس بعد مرورها على جسد أبوالهول، يخشون كل صباح أن تعصف خطط التطوير الحكومية المتواترة بتلك الأفضلية، وتضيع المنحة المالية غير المباشرة من أجدادهم القدماء عبر الراغبين في مشاهد أقدم حضارات التاريخ.
القاهرة – لا حديث لأهالي منطقة نزلة السمان بالجيزة إلا عن إمكانية عصف خطط التطوير المتلاحقة ببوابة دخول منطقة الأهرامات المواجهة لمنطقتهم التي تتراص أمامها محال بيع التحف الأثرية والسلع التراثية وتتفرع منها شوارع أصحاب الجمال والخيول، قلقهم مضاعف لارتباط حياتهم ببقاء رابط مباشر بينهم وبين أبوالهول وأهراماته الثلاثة، فلا توجد مهنة أخرى يستطيعون العمل بها أو تربوا عليها.
وقعت شركة “أوراسكوم للاستثمار القابضة” التي يرأسها رجل الأعمال نجيب ساويرس، أخيرا عقدا مع وزارة الآثار المصرية يمنحها حق الانتفاع بمنطقة الأهرامات، ووضع خطط لتنظيم جديد لدخول أصحاب الخيول والجمال والباعة الجائلين، وبرامج متخصصة لتدريبهم وتأهيلهم ولائحة لتشغيل الخدمات للزوار، عبر شركة جديدة ستؤسسها لذلك الغرض.
تحمل نزلة السمان بالجيزة لقاطنيها ذكريات لا تنسى، حيث تطأ أرضها جنسيات عديدة رغم معظم مبانيها المتواضعة، تتراص فيها الخيول والجمال بمعظم الشوارع، تتأهب عجلات عرباتها التقليدية “الكرتة” باستمرار للتحرك على وقع موسيقى اصطدام حوافر الأحصنة المُدرّبة على الرقص التي يتلاعب بها الخيالة يمينا ويسارا.
وتكشف مصادر بـالشركة عن عزمها إجراء تغييرات على منطقة الأهرامات بإنشاء ساحة انتظار للحافلات خارج المنطقة الأثرية أمام المدخل الجديد الواقع على طريق الفيوم المتاخمة للجيزة، ومنع دخول السيارات والحافلات داخلها وتوفير وتشغيل وصيانة وسائل نقل للزائرين داخل المنطقة بنحو 50 حافلة وسيارة تعمل بالكهرباء للحد من التلوث.
وتفكر الحكومة منذ قرابة العام في الاستعانة بشركة خاصة لإدارة المنطقة، لكنها تلكأت خوفا من رد فعل قاطنيها ليأتي الحسم بعد قصة الفيديو الفاضح الذي تم تصويره فوق الهرم الأكبر بمساعدة أحد الجمّالين، بعد جدل حول طبيعة عمل المسؤولين بالمنطقة وكيفية صعود السائحين الدنماركيين الهرم وتصوير الفيلم بأريحية واطمئنان رغم العمال وشرطة السياحة.
وعلمت “العرب” أن الشركة ستتولى تشغيل وصيانة الخدمات المقدمة بمركز الزوار الجديد الذي سيضم محلات ومطاعم ومقاهي وقاعة عرض سينمائي وخدمات توصيل الوجبات السريعة وأنشطة ترفيهية أمام ساحة انتظار المدخل الجديد، والتعاقد مع شركتي نظافة وأمن على أن تحصل الحكومة على مبلغ ثابت يزيد بنسبة 10 بالمئة سنويا كحد أدنى مضمون، أو مبلغ يساوي نسبة 50 بالمئة من صافي أرباح الشركة الجديدة أيهما أكثر.
معاناة مستمرة
يخشى الأهالي من أن يُفاقم التطوير معاناة المنطقة المتواصلة منذ تداعيات ثورة 25 يناير 2011 على القطاع السياحي حتى الآن، فالأوضاع بالعاصمة مغايرة لسيناء التي عادت إليها الوفود السياحية، العديد من البازارات أغلقت أبوابها بعد سبعة أعوام من الخسائر، ومحال عطور تناست أنوف الغرباء، وخيول تحن لرؤية وجوه جديدة بعيون زرقاء وشعر أشقر.
يقول عصام أبوصلاح، صاحب بازار للتحف بنزلة السمان، إن الأهالي لا يعارضون التطوير لكن دون قطع أرزاقهم، فلا مجال لنقلهم بعيدا عن الأهرامات كالمناطق الأخرى، فلعملهم طبيعة خاصة، وخيولهم وجمالهم لن تتحمل رحلتي ذهاب وعودة يوميا من مدينة 6 أكتوبر التي تبعد 30 كيلو مترا، ومعظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة غير مؤهلين للعمل بأي مهن أخرى.
وتمتاز المنطقة بطابع خاص بعلاقات المصاهرة بين الأسر الكبرى المقدر أعداد أفرادها بالآلاف ونسق سكاني لم يتغير منذ تأسيس القرية، إلا بشكل طفيف بعد العدوان الثلاثي (الفرنسي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي) على منطقة قناة السويس في الخمسينات من القرن الماضي وترحيل بعض العائلات إليها، فالأهالي يرفضون بيع بيوتهم للغرباء أو حتى توقيع عقود إيجار معهم إلا في ما ندر.
ولم يكن ساويرس رجل الأعمال الوحيد الذي يستعد للدخول لمنطقة الهرم، فمنير غبور رجل الأعمال المتخصص بمجالي السياحة والتأمين، يريد أن ينقل رعايته لمنطقة شجرة مريم والكنيسة المجاورة لها بحي المطرية بالقاهرة، لآفاق أوسع باقتراحه إنشاء وإدارة “تليفريك” من المتحف الكبير بالمنطقة وميدان الرماية المتاخم الذي يتم إخلاؤه الآن ليتحول لممشى سياحي استثماري يتيح مشاهدة كل الآثار من أعلى.
ويضيف أبوصلاح لـ”العرب” أن قلق الأهالي مشروع من التطوير، فتركيب تليفريك ومنع دخول الحافلات المنطقة الأثرية سيجعلان السائحين يفضلون مشاهدة المنطقة من أعلى ما يحرم أصحاب الخيول والجمال من الوصول إليهم، ونقل الاهتمام إلى الناحية الأخرى من الأهرامات القريبة من الفيوم يسحب البساط من مدخل المنطقة التقليدي المواجه لبلدهم.
ويبدي السكان تخوفا من مصير مشابه لمنطقة مثلث ماسبيرو بوسط القاهرة الذي تمت إزالته بالكامل مع مقترح جاهز منذ عام 2009 وضعه رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي، حينما كان رئيسا لهيئة التخطيط العمراني، بإخلاء أجزاء من المنطقة ونقل السكان إلى مدينة 6 أكتوبر لإنشاء متحف مفتوح حول معبد الوادي ومدينة العمال.
ويقول عبدالنبي غنيم، أحد الخيالين، إن أهالي نزلة السمان حموا منطقة الأهرامات إبان الانفلات الأمني في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، ووقفوا أمام محاولات الإرهابيين الإضرار بالسياحة خلال الفترة التي أعقبت إزاحة جماعة الإخوان عن الحكم في 2013، رغم الإغراءات التي تعرضوا لها والأوضاع المالية الصعبة التي عاشوها مع توقف السياحة تقريبا.
ولا يزال أهالي نزلة السمان يحاولون تبرئة أنفسهم من اقتحام ميدان التحرير ومحاولة طرد المتظاهرين بالقوة أبان ثورة 25 يناير 2011، يقولون إنهم توجهوا للمشاركة بتجمع لتأييد الرئيس الأسبق حسني مبارك بمنطقة المهندسين بالجيزة بهدف التنديد بتأثر السياحة بالأوضاع السياسية، لكنهم تعرضوا للخداع بمطالبتهم بالتوجه لميدان التحرير للمشاركة بفعالية تأييد مزعومة، قبل أن يجدوا أنفسهم أمام المتظاهرين المعارضين وجها لوجه.
حتى غير العاملين بالسياحة يرفضون فكرة هجرة نزلة السمان وترك القصور التي بنوها وتوارثوها من أجل شقق سكنية بالمناطق العمرانية الجديدة، بعضهم لديه مزارع خيول عربية أصيلة لا تخرج إلا بحساب ولا يراها سوى أصحابها أو الراغبين في شرائها، النظرة من عيونها تعادل أموالا، كما يقولون بعدما تجاوزت قيمة الحصان الواحد منها 700 ألف جنيه (40 ألف دولار).
ويوضح غنيم لـ”العرب” أن وزارة السياحة تضع تسعيرة ثابتة على تقديم الخدمات السياحية بقيمة 200 جنيه للساعة (11 دولارا) ويمر يوم كامل دون أن يأتي أحد لاستئجار حيوان أو عربة “كرتة”، ما يمثل ضغطا ماليا في ظل وصول تكلفة تربية الحيوان الواحد إلى نحو 60 جنيها (3.5 دولار) يوميا.
ولا توجد إحصائيات رسمية حول أعداد العاملين في تقديم الخدمات السياحية بمنطقة نزلة السمان، لكن يقدرها أصحاب الشركات بنحو مئة شركة صغيرة وقرابة المئة بازار أيضا، ونحو ثلاثة آلاف شخص يعملون كخيالين وجمالين وبائعين متجولين برخص حكومية، بجانب الآلاف الذين يعملون بها بشكل غير مباشر. ويقول أحمد علام، أحد مقدمي خدمة تأجير الجمال، إنه لم يفكر في تغيير نشاطه رغم السنوات التي مرت بها السياحة في المنطقة، فقد يمر عليه أسبوع كامل قبل أن يؤجر حيوانا واحدا، مطالبا شركات السياحة المصرية بأن تعيد وضع الأهرامات على أجندتها بتنظيم رحلات إليها وعدم التركيز على مقاصد جنوب سيناء فقط.
وتحتاج منطقة نزلة السمان لتطوير جذري بعدما باتت على مقربة من المتحف المصري الكبير، المقرر افتتاحه في 2020، واستقبلت إنشاءاته قرابة 45 ألف قطعة أثرية، تراهن الحكومة عليه كعامل جذب جديد للسائحين بإتاحة الفرصة لعرض جميع الكنوز المصرية المتكدسة بمخازن المتحف القديم بوسط القاهرة والتي من بينها 5400 قطعة للملك توت غنخ أمون لم تعرض من قبل.
وتتواتر الرغبة في تغيير الأوضاع بنزلة السمان مع بدء عمل مطار سفنكس الجديد غربي الجيزة أكتوبر الماضي والذي يبعد 12 كيلو مترا فقط عن منطقة الأهرامات، وكشفت الرحلات التجريبية له عن تردي الرؤية الرأسية للمنطقة بانتشار العشوائيات التي لا تلائم حركة التدفق السياحي المتوقع مع افتتاح المتحف الكبير.
ويرى أهالي النزلة أن أوضاعهم الحالية قابلة للتطوير دون تهجير، بشرط موافقة الدولة، فلدى عائلاتهم القدرة على تحمل التكاليف المالية لتحويلها إلى مزار عالمي أو قرية فرعونية كاملة بوضع تماثيل مقلدة بمداخلها ومخارجها ورصف الطرق، واستحداث ميادين خضراء تتضمن نافورات مياه وعناصر جمالية.
ويملك الأهالي أوراقا رسمية تثبت ملكيتهم لمنازلهم منذ 116 عاما، فنزلة السمان كانت تسمى سابقا بركة السمان حينما كانت مياه فيضان النيل تغمر منطقة الأهرامات حتى قدمي أبوالهول، وعاش قاطنوها بالمناطق المرتفعة على صيد الطيور أثناء الهجرات الموسمية حتى بناء خزان أسوان عام 1902 وانحسار المياه وبدء بناء مساكنهم بالمنطقة الحالية.
ويستندون إلى كتاب “بناة الأهرام” للدكتور محمد عبدالحليم نورالدين، عالم الأثريات الأبرز، الذي يؤكد أن أجدادهم تولوا مسؤولية إطعام عمال البناء وكسوتهم أثناء إنشاء الأهرامات مقابل إعفائهم من الضرائب بما يجعلهم الأولى قانونيا وشرعيا بمجاورتها، ومهنتهم عريقة تم تنظيمها حكوميا عبر جمعية مهنية أسست عام 1930.
وينفون وجود آثار أسفل منازلهم بحجة أن القدماء لم يكونوا ساذجين ليبنوا معبدا أسفل بحيرة مياه، لكن لا يستطيعون تبرير مساعي بعضهم للتنقيب كواقعة اكتشاف بئر بعمق 15 مترا على بعد 300 متر من هرم خوفو أسفل مقهى “القرموطي الدولي” الذي اكتسب شهرة بفيلم “معلهش إحنا بنتبهدل” للفنان الكوميدي أحمد آدم الذي تم تصويره في نزلة السمان قبل 13 عاما والمغلق حاليا.
مخاوف مشروعة
يخشى محمد إبراهيم، صاحب بازار متخصص في بيع السلع المصنعة يدويا من إمكانية ضياع خططه وأحلامه المستقبلية، فقد انتقى مكان مشروعه بعناية ليكون مواجها لبوابة دخول الأهرامات تماما حتى يرى الأجانب الزائرون المنتجات التراثية والعصرية التي يعرضها وتعبر عن الحضارة المصرية القديمة وتمتاز بأن غالبيتها مصنعة محليا.
وتحظر السلطات إجراء بناء منازل جديدة أو تطوير أو ترميم القائم منها، فنزلة السمان منطقة أثرية بقرار جمهوري صادر عام 1971، وشنت أجهزة الأمن أخيرا حملة أزالت خلالها عددا من الفنادق الصغيرة رغم اكتمال بنائها واستقبالها الزوار رغم أن السلطات ذاتها ارتكبت مخالفات ببناء جدار خرساني يعزل المنطقة على عمق مترين بما يخالف قانون الآثار أيضا.
ويقول إبراهيم لـ”العرب” إن محال نزلة السمان ليست المستفيد الأول من السياحة، فهناك المئات من الأشخاص الذين يتربحون منها بشكل غير مباشر، فمصنوعات الخوص التقليدية تأتي من محافظات شمال الصعيد واللوحات الخزفية توردها ورش خان الخليلي والمعالجات التشكيلية للمنتجات البحرية كالقواقع والأصداف ومشغولات الصوف والتريكو تقف وراءها العشرات من الأسر بالمدن الساحلية.
ويعرف القاطنون بالمنطقة جيدا أن بقاءهم مقرون بمدى قدرة جدران بيوتهم على مواجهة الزمن والتعرية في منطقة متشبعة بالمياه الجوفية، انهيار أي طوبة منها سيدفع بملاكها للشارع وفق حكم القانون الذي يمنع إعادة البناء، وخطط التطوير بالنسبة لهم مخاطرة غير مأمونة العواقب.
وتعد نزلة السمان منطقة غريبة من المفارقات فلا هي قرية ولا مدينة، أهلها يريدون التطوير ويخشونه بالوقت ذاته، العاملون بالسياحة بها لا يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم من القادرين على مخاطبة السائحين بثلاث لغات مختلفة، قصور أغنيائها تجاورها مبان قديمة لا يمسك جدرانها سوى التلاحم، حتى فنادقها شديدة النظافة من الداخل لا تخلو من فضلات الحيوانات من الخارج وعشوائية مركبات التوكتوك.