هنا في هذا المطعم كان محمد شكري يخطط لكتاباته

"العرب" حاولت أن تدخل إلى عوالم الكاتب المغربي الراحل محمد شكري، من باب المطعم الذي يحمل عنوان روايته الأشهر "الخبز الحافي" ومن وجهة نظر من عايشه من الناس.
الخميس 2018/12/20
مطعم جعله الكاتب رواية وشاهدا أدبيا

إذا ما رحل كاتب مؤثر تسلّط الأضواء غالبا على منتجه الأدبي الذي تركه، وتأخذ آراء من جايلوه من الكتاب والنقاد ومن قرأوه وخبروا عوالمه الإبداعية، ليتحدثوا عنها مذكرين بما له. لكن نادرا ما نلتفت إلى آراء الناس الذين عايشوا الكاتب الراحل في يومياته وفي الأماكن التي كان يجلس بها، حيث غالبا ما يختار الكتّاب مقاهيَ أو مطاعم بعينها تكون مستقرا لهم.

حلّت منتصف الشهر الماضي ذكرى رحيل الكاتب المغربي العصامي محمد شكري، الروائي السارد لعذابات الناس التي يخفونها بالحشمة والحياء، والذي كشف المسكوت عنه في الحياة الاجتماعية المغربية. وفي واحد من أمكنته المفضلة في مدينة أحلامه؛ طنجة، زارت “العرب” أحد المطاعم الذي كان شكري يجلس به ليخطط لأساسات إبداعاته الروائية، حتى بلغت درجة حمله اسم أولى روايات شهرته “مطعم الخبز الحافي”.

ركن الكاتب

على الرغم من مساحته الصغيرة وسط شارع موسى بن نصير بمدينة طنجة؛ شمال المغرب، تبقى لمطعم “الخبز الحافي” سعته المعنوية، وهالته التاريخية الحُبلى بذكريات المتعة الأدبية التي رسمتها حروف كلمات خطها الأديب العصامي محمد شكري (يوليو 1935ــ نوفمبر 2003)، الذي ارتبط اسمه بمدينته الأولى طنجة، مباشرة بعد نزوح أسرته إليها، بعد مدينة تطوان، من منطقة الريف، ليستقر بطنجة أو “طنجيس” الأسطورية، التي يلتقي البحران الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي حول جيدها كمنارة تسطع ليلا تحت مشاعل سفن هرقل الراسية بمضيق جبل طارق، الفاتح الأمازيغي المغامر.

لقد جعل محمد شكري، الذي يحتفي محبوه هذه الأيام بذكرى رحيله الخامسة عشرة، من مطعمه الذي يحمل اسم روايته الأشهر، “الخبز الحافي”، ملاذا أدبيا يلجأ إليه كلّما ضاقت المسافة بينه وبين الكلمات، حيث كان يجلس إلى مائدته المفضلة المركونة إلى يمين المدخل تتوسط أرائكها الجلدية الخاصة باستراحة المحارب، محمد شكري، الكاتب المغربي الذي جعل من مطعمه ملاذا يأويه كلما ضاقت السبل عن السير المرهق فوق جسر القص والرواية، أو كلما جفت محابر كتابته، فاحتاج إلى استراحة أديب تعبت يمناه من فعل رمي الورق بكلمات من حبر.

إن مطعم “الخبز الحافي” في طنجة هو مكان شكري المحبّب إلى طبعه المسكون بالهروب وسط دروب الكلمات المطلية أحيانا كثيرة بالأحمر النبيذي، من طلوع الشمس إلى غروبها، كان مطعم ملاذ لمزاولة طقوس جلوسه الطويل للحفر والكتابة في طقوس أشبه بالقدسية التي تلفّها هالة من السكون، تخرج منها كتابات شكري التي لا تعترف بحاجز في طريق فضحها للمسكوت عنه في المجتمع المغربي.

محمد شكري جعل من مطعمه الذي يحمل اسم روايته الأشهر ملاذا أدبيا للتأمل والكتابة
محمد شكري جعل من مطعمه الذي يحمل اسم روايته الأشهر ملاذا أدبيا للتأمل والكتابة

يفيدنا فؤاد؛ كبير خُدَّام مطعم “الخبز الحافي” في طنجة، في تصريح لـ”العرب” التي زارت المكان، بأن للمطعم هالة وسمعة اكتسبهما بما عرفه من ذكريات جميلة مع الكاتب المغربي الأشهر محمد شكري، ذكريات يصفها فؤاد الذي عاش أدق تفاصيلها مع الأديب الراحل وأصدقائه، “عشناها معه، لقد كان نموذجا للكاتب الكريم السخي الذي يستمر يعطي حتى آخر ما ملكت يداه”، فقد كان شكري سخيّا لدرجة التبذير، “يصرف كل ما في جيبه على أصدقائه دونما حساب. لقد كان كريما جدا”، يعلق فؤاد.

كل الكراسي والموائد المبثوثة بمطعم “الخبز الحافي” شاهدة على المكوث اليومي الطويل لرجل مفتون بالكتابة والقراءة وفناجين ” قهوة كاريون المُرَّة والحلوة في آن”. يعلق فؤاد، ثم يشير بسبابته إلى ركن عميق بالمقهى، مؤكدا أنه كان الركن المحبب لدى أديبنا الراحل، حيث كان يجلس فيه بين أصدقائه الذين إذا تأخروا في الوصول إليه، دخل الأديب في حوار أدبي مسموع مع نفسه مفتخرا فيه أنه “ابن الريف المغربي الشامخ، وأنه خرج من رحم أمه واقفا في يوم من أيام عام الجوع وسط منطقة بني شيكر سنة 1935، وأن ذلك حدث وسط هضاب إقليم الناظور شمال شرق المغرب”.

المتأمل في ذاته

يحكي لنا الأشخاص الذين تعرفوا على صاحب رواية “مجنون الورد” في مطعم “الخبز الحافي” بطنجة، أنه كان يميل إلى التأمل والسفر في أحلام اليقظة، وأنه كان يمتح من تأمله ذاك، الذي يصفه الذين جالسوه، بأنه تأمل كأنه مراجعة عميقة لذكرياته أو لسيرته الذاتية (الهامشية) التي عاشها أديبنا كطفل فقير مغلوب على أمره، لا حول له ولا قوة، وسط أسرة مشرعة أبوابها للأزمات والهزات النفسية والجسدية، يقودها والد بسلوك سيء مشين وبغِلظة ما ترك أثرا سلبيا في نفس الطفل، الكاتب، محمد شكري، الذي سيستثمرها في كتابته الذي أتى على كل شيء في بوح صريح للعالم في روايته الثائرة “الخبز الحافي”.

لقد عانى محمد شكري، الكاتب العصامي، كثيرا، لكنه في مطعمه الذي يحمل اسم أشهر رواياته، كان يجد العناية الكاملة التي زادته من إشراقات إبداعه الأدبي، حيث بذات المطعم كان يجلس لتخطيط أساسات بناء أعماله الأدبية المتتالية: “مجنون الورد” (1979)، “الخيمة” (1985)، “السوق الداخلي” (1985)، “مسرحية السعادة” (1994)، “غواية الشحرور الأبيض” (1998)، وغيرها من الأعمال الأدبية التي ترجمت إلى عدد من لغات العالم.

14