في السوق المتاحة

كان الدرس الأول الذي تعلّمته من عملي في الصحافة، أن السياسي الرومانسي الحالم المتمسك بالمثاليات، لن يجد ما يسرّه ويرضيه في سوق العمل، بل سيجد نفسه مضطرا إلى المرونة تلو الأخرى، عندما يعلم أن لا مطارح باتت متاحة، لبيع الأيديولوجيا، ولا متسع للمُطلقات في معتركات الحياة.
كان من بين أهم الأدوار التي تضطلع بها الصحف آنذاك، تطبيع الرومانسيين على التعايش مع نقيض ما ظلوا يحلمون به، وأن يغادروا مربعات أحلامهم، ويخفّضوا نبرة الحماسة في أحاديث القضايا الاجتماعية والسياسية، والفقراء وأحاديث الضد عن الإمبريالية والرجعيين والجواسيس. فأقل القليل من الشيء يُغني ولا يضر!
في الصحيفة التي آويت إليها، بعد ذات حرب وذات رحيل، وجدت كوكبة من الساسة المخضرمين، من الشيوعيين والقوميين والبعثيين والساسة القُدامى. وسرعان ما علمت أن كل صحيفة ميسورة لا تخلو من أمثال هؤلاء، كأن هناك نوعا من التوافق على استيعابهم شرط أن يكفوا شرّهم ويتوسلوا الروقان. كانوا كُتّاباً بحكم اهتماماتهم السياسية، لكنهم ليسوا صحافيين ولأنهم تقدموا في أعمارهم لم يعد مطلوبا منهم سوى مراجعة نصوص أو ترجمة نصوص!
كنت في تلك المرحلة، رومانسيا تزعجه كلمة التضامن على كل ما فيها من بشرى، إذ رأيتها أحد أشكال الالتفاف على مفهوم الوحدة، وأنها أصبحت بديلا له. وأحسست مع توالي التطورات أن الصحيفة ستصبح مصحة استشفاء من مرض الرومانسية.
في يوم تهيّؤ الصحيفة للترحيب بإطلاق شركة خطوط جوية أسستها الإمارة، كان عمود الصفحة الأخيرة مقرّرا عليّ، فطُلب مني الترحيب بالحدث، على أن أنضم قبل الكتابة، إلى ضيوف مدعوين لأن تُقلع بهم الطائرتان اللتان استأجرتهما الشركة لبدء تسيير رحلاتها، في تحليق احتفالي فوق مدينة دبي.
حتى ذلك التاريخ، كانت لإمارات ساحل الخليج شركة طيران تجارية واحدة تأسست في العام 1950. يومها أحسست أن هناك محاولة انشقاق أو تراجع عن ملمح وحدوي، علما وأن دنيا الخليج كانت فيها أسواق تتسع، وهويات تترسّخ، ومتنافسون في الملاعب، يذودون عن ألوان أعلامهم، وسياسات تحاذر بعضها بعضا، كما في طبائع الحياة والسياسات والبشر.
تولى زميل سوداني، الترحيب بالتدشين. فتناول الحدث بلغة العشق الصوفي التي يجيدها، واصفا شعور المسافر قبل الإقلاع: حط قارب “البوم” عند حافة الخور، فانتقل رهطنا، إلى جناحي طائر الفلامنغو الأسطوري، متجهين إلى حيث واحة النخيل الغنّاء.. في الأجواء!
تألقت الناقلة، وحذت حذوها، بعدئذٍ، ناقلات حملت أعلاما أخرى ورمزيات. ظلت السوق تتسع، والمدن تكبر والجَمل يمر، والأفق يتحرك!