الصحافة الاقتصادية تودع عصر السبق الصحافي لتستقبل أفقا أرحب

لندن – اعتبر ليونيل باربر، رئيس تحرير صحيفة “فاينانشيال تايمز”، أن العصر الرقمي ساهم في رفع محتوى الصحافة الاقتصادية، قائلا إن الفرص بالنسبة للصحافة الاقتصادية أو المالية، لم تكن قط رائعة بمثل ما هي عليه اليوم.
وأضاف باربر خلال محاضرة ألقاها في الـ22 من نوفمبر الجاري، ضمن فعاليات الذكرى السنوية للصحافي البريطاني البارز جيمس كاميرون في جامعة لندن، أن شبكة الإنترنت والمواقع الإلكترونية العملاقة تتحملان مسؤولية الكثير من الأخطاء مثل فجاجة الخطاب المدني، وإنشاء مجالات تواصل ضمن نظام مغلق، وتكرار وتضخيم المعتقدات نفسها، واحتكار إيرادات الإعلانات، والتأثير في الانتخابات، إلا أن الثورة الرقمية أدت أيضا إلى انفجار في الإبداع وأشكال جديدة من التنوع الغني في عرض المواضيع.
وتابع “يا لها من مواضيع ضخمة: صعود وسقوط جبابرة شركات مثل السير فيليب جرين، وثورة الذكاء الاصطناعي، وذروة العولمة، ولكي لا ننسى، هناك ‘بريكست’، وهو ليس شأنا بريطانيا فحسب الآن، بل ربما ستكون له أبعاده الأوروبية، في الغد”.
وأشار إلى أن الصحافي المختص بالأعمال والمال اليوم لم يكن قط متعدد الجوانب إلى هذه الدرجة، ولم يتم اختباره قط بمثل هذه الطريقة وفي مجالات متعددة: الطباعة، والصوت، والكاميرا. فالصحافي اليوم يبرمج الكمبيوتر ويؤلف ويتعاون مع غيره من الصحافيين، بطرق لم يكن من الممكن تصورها قبل عقد من الزمن.
وهذا أمر جيّد للغاية، لأن صحافة الأعمال والمال ذات الجودة العالية لم تكن قط أكثر أهمية مما هي عليه اليوم. أو أكبر من أن تفشل، وليس من حيث المواضيع فحسب، بل أيضا بسبب مساهمتها في ديمقراطية مساهمة مستنيرة.
ورغم هذا فهناك جانب مظلم وهو أن التهديدات للصحافة الاقتصادية الجادة على مرأى من الجميع: حيث يوجد جيش من مستشاري العلاقات العامة يعمل لدى أفراد وشركات لا يتحمّلون الانتقاد ولديهم الكثير من المال.
وتوجد “علاقات عامة سوداء” (يحركها أحيانا عملاء مخابرات سابقون) وتستخدم منصات وسائل الإعلام الاجتماعي لمهاجمة وتقويض سمعة الناس والصحافة المستقلة.
الصحافي اليوم يبرمج الكمبيوتر ويؤلف ويتعاون مع غيره من الصحافيين، بطرق لم يكن من الممكن تصورها سابقا
كما تتزايد قوة الأسواق الخاصة على حساب الأسواق العامة، ما يجعل من الصعب أكثر وصول الصحافيين إلى المعلومات.
ويضاف إلى ذلك التعدي باسم القانون، من خلال أوامر المنع القضائية، واتفاقيات عدم الإفصاح، والمفهوم الجديد للسرية المثير للقشعريرة. ويبقى هناك شبح “التقييد” باسم تنظيم الصحافة من قبل الدولة.
ويرى باربر، أنه منذ انتهاء عصر صف الأحرف على ماكينات الطباعة؛ وبدء ثورة الأخبار وتكنولوجيا المعلومات، خلقت فرصة جديدة للحياة بالنسبة للصحف، وأوجدت المئات من الوظائف الجديدة في الصحافة.
ففي عصر الإنترنت، تبيّن أن صحافة الأعمال لديها نموذج أعمال أقوى من الأخبار العامة. فالقراء أغنى، وسيدفعون مقابل المعلومات. وهذا هو السبب في أن عدد القراء الذين يدفعون مقابل الاطلاع على مقالات “فاينانشيال تايمز”، بات نحو مليون قارئ اليوم، أكثر من ثلاثة أرباعهم من المشتركين المنتظمين.
على أنه مع هذه الزيادة في القوة والوصول، تأتي أربعة تحديات: أولا: أصبحت البورصات رياضة تعتمد على المتفرجين، أي على قنوات أخبار الكابل، بالذات. حيث يأتي التعليق في الوقت الحقيقي وحل محل التغطية القطاعية المتعمقة.
كما أن التدافع على النقرات أدى إلى أن تصبح التقارير الصحافية سطحية، والعناوين الرئيسة عادية تخلو من العمق.
وتكمن المخاطر الحالية والمستقبلية بالنسبة للمطبوعات، في أنها تصبح بشكل متزايد ذات طابع اقتصادي مالي يتسم بالاستعجال.
وهذه الأيام، نصف حياة السبق الصحافي المثير هو بين خمس ثوان وساعتين. فقد ولت الأيام التي كان العالم يستيقظ فيها على سبق صحافي مالي حصري عالميا، على الصفحة الأولى لإحدى الصحف. لقد ولت منذ زمن طويل.
اليوم، سيتبع أي سبق صحافي مهما كان هوله، سبق صحافي تال خلال بضع ثوان، ومن ثم سيتطابق الجميع مع تلك الخبطة.
ويقول باربر، لندن في أواخر التسعينات والعقد الأول من الألفية في عهد توني بلير جسّدت فترة الاعتزاز بالثقافة البريطانية. رواتب أعلى، وأناقة عالمية. تم تصنيف الحي المالي في لندن إلى جانب نيويورك باعتباره المركز المالي في العالم، بل إنها قد تجاوزتها مؤقتا، بعد انهيار الدوت كوم.
وحقبة تاتشر وريغان التي عملت على تحرير الأنظمة والتوجه نحو العولمة من خلال حرية حركة السلع والرساميل والعمالة والخدمات، أطلقت العنان للشركة المعولمة. وجنبا إلى جنب مع الإنترنت، فإن العولمة قد زادت أيضا من صورة ومدى صحافة الأعمال. وكانت صحيفة “فاينانشيال تايمز” مستفيدة، على الرغم من تغير شيء واحد. المعركة من أجل السبق الصحافي والموهبة، فقد تحررت من عقالها منطلقة إلى ساحة عالمية، للتنافس مع صحف “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز” و”بلومبيرغ”، بدلا من أن تكون داخل الحدود الضيقة لشارع الصحافة في لندن “فليت ستريت”.