مشاعر خرساء

للصم والبكم قلوب تنبض، وتهفو للحب، لهم أرواح على الإطلاق، وللنساء منهن نفوس وقلوب بريئة تميل للانجذاب إلى غيرها.
الاثنين 2018/11/26
للصم والبكم قلوب تنبض

عند منتصف النهار، وفي وقت الأصيل حين تعلن الشمس رواحها القسري يخلو الشارع من الباعة الجائلين والمارة، إلّا من قاصدي البحر في نهارات الصيف شديدة الحرارة والقيظ، أو نهارات الشتاء الدافئة قبل أن تلف موجات البرودة الجوّ، وتمتلئ الشوارع بطلاب المدارس والجامعات والموظفين.

في هذه الساعة تحلو القيلولة للكثير من الأسر، حتى أصبحت طقسا شعبيا باتفاق غير معلن وعقد غير مبرم، وباتت موروثا لا يستطيع الفكاك منه غير بعض الشباب من المتمردين أمثالي. كنت أجلس على كرسي بحر في بلكونة (شرفة) بيتنا الواسعة قبل أن تشدني فتاة بيضاء ذات شعر كستنائي متمرد على ضفيرتها، تسير وحدها في الشارع. تبعتها بعينيّ حتى غابت عن البصر تماما، وصارت لقاءاتنا تتكرر، هي تمرّ أمامي وبصري يتبعها من أعلى حتى تغيب، ظلت حالنا هكذا حتى قررت يوما ما انتظارها في الشارع والتشجع لبدء الحديث معها، مرت أشهر والحال لا تتغير إلا قيد أنملة؛ فقط تبتسم.

أسبقها لأعترض طريق عينيها وأتحدث ببضع كلمات وهي ترد بابتسامة جميلة، بقي وضعنا هكذا حتى أشرت لها بيدي فوجدت ابتسامتها تتسع ووجهها يضيء ويشرق، وترد عليّ بنفس الإشارات وتزيد عليها حديثا مطولا.

تبعتها ذات يوم، وطلبت منها لقاء عاجلا بلغة الإشارة وأنا أكتفي فقط بالنظر وحركات اليدين، لكنني في لقائنا الأول بادرتها بالكلمات وصرّحت بحبي لها بصوت عال، ضايقها صوتي، اكتشفت أن حبيبتي طيلة هذه الفترة “خرساء” لا تستطيع الحديث بالكلمات، فتاة لا تعترف بالحروف، يداها حلتا محل لسانها وعقدته.

تاه عقلي، تناثرت ذكريات المرحلة السابقة كعقد اللؤلؤ المنفرط، عجزت عن الكلام أنا الآخر، ليس قدرا ولكن خجلا، كيف أصارح والديّ بوضع حبيبتي الصحي، وهل من الممكن أن تظل حبيبتي؟ هل أتزوجها شفقة بها؟

أم أذهب لحالي وأتركها لعالمها؟ أسئلة كثيرة حطمت كياني، لكنها وضعتني في وضع نفسي لا أحسد عليه.

كانت الحبيبة الخرساء كما نطلق عليها في العائلة، قصة قديمة من ذكريات ابن عمتي، قفزت إلى ذاكرتي أثناء إنجاز تحقيق صحافي عن فئة منسية في المجتمع، وغير معترف بمشاعرها الطازجة في اكتشاف الآخر، فئة محكوم على مشاعرها بالإعدام. فقط لأنها تفقد آلية التواصل اللفظي مع من حولها.

حقوق الصم والبكم في الحب والحياة السوية والزواج من إنسان طبيعي متكلم، وألا تنحصر علاقاتهم في مجتمع منغلق على نفسه، بشكل تمييزي صارخ، وحقهم في الالتحاق بالتعليم الجامعي، والعمل، والاستمتاع بكافة أنواع الفنون المرئية والملموسة منها، مشاهدة الأفلام السينمائية والعروض المسرحية في وجود مترجم إشارات لينتقلوا إلى عالم الحدث، وليس مجرد الاكتفاء بالنظر إليه من بعيد بعينين دامعتين، وممارسة الحياة بشكل فاعل.

وجهت سؤالي عن حرية المشاعر، إلى صماء كانت متزوجة من متكلم وفشلت علاقتهما بضغط من والدته التي ترى زوجة ابنها امرأة لا تصلح للزواج برجل من خارج فئتها المرضية ويخضع للتصنيف الإقصائي كشأنها، فعلى الرغم من إثمار الزواج عن طفل إلا أن الأم ظلت تتعامل مع هذا الزواج بشكل مؤقت، ولم تكن هذه الحالة استثناء في علاقات كثيرة بدأت بالحب وطوفان المشاعر الجارفة وانتهت بالرفض التام والقطيعة. زيجات عدة بين صم وبكم ومتكلمين لم تنل مباركة الأهل، وفشلت في منتصف الطريق، حتى وإن أثمرت عن أبناء، وبعضها كانت علاقات حب ماتت قبل أن تولد في مناخ صحي من تقدير المشاعر.

وما أدهشني خلال بحث استقصائي استغرق عدة أشهر، أن الرجل الأصم الأبكم من الممكن جدا بل من الطبيعي له التزوج بمتكلمة وسط ترحيب أهله وتواطؤ أهلها عليها سالبين إياها حق الاختيار الحر، إلا أن هذا الأمر مرفوض تماما وفي عداد المستحيلات على النقيض من هذه الحالة حين تكون الفتاة صماء، أو بكماء أو كلاهما معا.

إحداهن قالت بلغتها: أريد أن أحب ويحبني أحدهم، فتحت أزرار فستانها الوردي وأشارت إلى ضلوعها، عندي قلب يتحرك وينبض، يحب، يحمل مشاعر، فكما نحتاج إلى الطعام حتى نعيش، نحتاج إلى إطعام قلوبنا وعدم تركها جائعة، ليتكم تعلمون أننا نبحث أيضا عن الحب لنعيش ونتنفس، نحن بشر، أنا أرى نفسي إنسانة كاملة لا ينقصني شيئا.

للصم والبكم قلوب تنبض، وتهفو للحب، لهم أرواح على الإطلاق، وللنساء منهن نفوس وقلوب بريئة تميل للانجذاب إلى غيرها، فمن حقهن الشعور بأهميتهن وبذواتهن في الحياة والاستقلالية وحرية التعبير عن مشاعرهن.

21