معرض فني لما سيكتشف بعد ألفي عام

معرض يفترض القائمون عليه شكلا لمعرض يقام في مطلع الألفيّة الخامسة، لمجموعة من العوامل الطبيعيّة والبشرية، تبدو وكأنها آثار أحفورية وجدها علماء المستقبل.
الأحد 2018/11/25
سوء التأويل وخطورة التحديقة العلمية

باريس - تبحث الأركيولوجيا في الآثار الماضية، التي تنجو من جهود التخريب البشرية والتغيّرات الطبيعية لتتحول إلى دليل ثقافي، لكن ماذا عن الآن؟، ما الذي يمكن أن ينجو مما نجده حولنا ويبقى لألفي سنة في المستقبل؟، فالبلاستيك سيتفكّك والمواد الصناعية الأخرى ستتلاشى، لتصمد فقط القطع المعدنية والقماش وربما كسرات من الزجاج، السؤال الأهم، كيف سيكون شكل المتحف الذي يحوي آثارنا في المستقبل؟، وما هي الآثار التي سينسج حولها المؤرخون وعلماء الأركيولوجيا حكاياتنا؟

يقيم متحف الأركيولوجيا الفرنسية في ضواحي مدينة باريس معرضا بعنوان “المستقبل التالي – الكنوز الأركيولوجية للقرن الحادي والعشرين”، ويفترض القائمون عليه شكلا لمعرض يقام في مطلع الألفيّة الخامسة، إذ طُبقت على الأغراض اليومية المحيطة بنا مجموعة من العوامل الطبيعيّة والبشرية، لتبدو وكأنها آثار أحفورية وجدها علماء المستقبل، مُتيحا لنا أن نتعرّف ولو بسذاجة على ما يمكن أن يبقى “منّا”، إذ نرى مثلا تمثالا رخاميا وهاتفا نقالا ومفاتيح معدنيّة، وغيرها من الأغراض التي من المفترض أنه مضت عليها ألفيتان.

يتلاشى  عام 4018 كل شيء يتحدث عن زمننا، كل الكتب والأوراق والبيانات الرقمية والأقراص الممغنطة، وكل “حكايتنا” اختفت ولم يبق إلا ما يصمد بوجه الزمن، وهنا يقترح المعرض صيغة يتداخل فيها اللعب مع الجد، في سبيل توجيه النقد لحياتنا المعاصرة من جهة، وللمنهجية العلميّة من جهة أخرى،  فكي نتعرّف على الأغراض التي من المفترض أنها وُجدت في “ما كان يسمّى بحيرة لوزان في سويسرا”، نرى مجموعة من الأحاجي، التي يجب الإجابة عنها لنعرف ماهية الغرض الذي نحدّق به، كأن نرى هاتفا نقالا محترقا، وتُترك لنا حرية أن نقرر إن كان فعلا هاتفا نقالا، أو دمية للأطفال، أم آلة لفك التشفير.

تحيلنا التساؤلات السابقة، على سذاجتها، إلى مفاهيم التصنيف العلمي، والأبحاث الأركيولوجية التي تبني ثقافة “الآخرين” بناء على مفاهيم الآن، وأدوات التأويل المستخدمة الآن، ليتحول الغرض من استخدامه اليومي إلى الصيغة المتحفيّة التي تغرقه في التأويل، ويتضح ذلك في واحد من أقسام المعرض الذي من المفترض أنه يحاول فهم الظاهرة الروحية لسكان الألفية الثالثة، وفيه نشاهد تمثالا رخاميا صغيرا مكسورا، يُوصف “أركيولوجيا” بأنه جزء من الظاهرة الدينية البشرية، ويحوي خصائص سحرية لكون من يحمله عجوز، وكما هو معروف للعجائز مكانة دينية رفيعة، لكن حقيقة، التمثال ليس سوى قطعة زينة كيتش، تُنتج بالملايين، وتعتبر حاليا عكس كل ما سبق، هي أدنى مستويات الفن، ولا خصائص طقوسية أو سحرية لها، بل هي منزوعة الهالة لا خصوصية لها سوى قبحها حسب تعريف الكيتش.

اللَبسْ السابق مشابه لما كان يحدث  – ولا يزال مستمرا في بعض الأماكن- حين دراسة الآثار القديمة، والتي قد يتحول إثرها غرض مبتذل إلى قطعة أثرية، كان يظنّ أن لها وظيفة سحريّة أو طبيّة، وهذا ما نراه في إناء حديدي يعلوه الصدأ، يستخدم عادة للسقاية ويمكن الحصول عليه من أي مكان، فالوصف “المتحفي” يرى فيه عملا فنيّا مصنوعا بحذر شديد، ويمثل أوج الظاهرة البشريّة “الآن”، إذ “كان” يستخدم لاحتواء سوائل فخمة كان يشربها البشر كالنبيذ والويسكي، أو لحفظ الأدوية التي كانت تستخدم لعلاج الأمراض المستعصية، والتي يمكن شربها مباشرة من الإناء.

المفارقات التي نراها في المعرض، والمحاكاة الساخرة التي يتبناها تدعونا إلى التفكير بالمعارف الحالية ومدى دقتها، إذ نتلمّس هشاشة أساليب التصنيف “العلمية” المرتبطة بأدوات ومفاهيم “الآن”، وتحيلنا للسؤال المتجدد دوما، هل كان رجل الكهف فنانا حين رسم على جدار الكهف؟

14