صوتُ الفرد الأكثر أصالة

يواجه الأدب محنة الإلغاء والتقييد في ظلّ الأنظمة الشموليّة التي تعادي التمايز وتحاول احتكار القيم والحقائق
الاثنين 2018/11/05
جاو كسينغجيان: خيارات الكاتب المتمسّك بصوته الخاصّ محدودة

يتمّ توظيف الأدب في خدمة السلطات السياسيّة التي تجعل منه أداة من أدوات تمكين سلطتها وتعزيز نفوذها وتوكيد حضورها في مختلف مناحي الحياة، بحيث يغدو وسيلة دعائية لمنجزات السلطات التي تسخر منه بجييره وتطويعه لخدمتها، وتفقده مكانته وقيمته، وتسلبهما منه في سياق قلب سلّم القيم نفسه لصالحها.

تشير التجارب التاريخية إلى أنّ الأدب يفقد قيمته وأصالته حين يذعن لإملاءات السلطات التي توجّه دفّته وتقيّد حرّيّته، وتلزمه باتّباع النهج الذي ترسمه له، وتدفعه لمنزلقه الذي يدور في فلكها وينحني أمام إغراءاتها وإرهابها.

من تلك التجارب مثلاً ما تجسّد في سعي سلطات الاتّحاد السوفييتي السابق إلى ترويج نوع موظّف من الأدب، ذاك الذي كان ينصبّ في خدمة مصالحها وسياساتها، وكان يلغي قيمة الفرد لصالح ضبابيّة تشكّل قناعات لتفتيت الشعب الذي كان لفظ اسمه يوضَع كقناع لإخفاء الإجرام المقترف بحقّه.

حلّت صناعة الأديب الموظّف المؤطّر محلّ الحرّ المحلّق في فضاءاته، المحطّم للقيود، وجاء ترويج صورة باهتة تابعة للأدب الإمّعة للسياسيّ بدلاً من ذاك الذي يعبّر عن القضايا التي يؤمن بها بعيداً عن سلطة القمع والإرهاب.

تلغي السلطات المستبدّة صوت الفرد في مسعاها لمحو وجوده وإلغاء هويّته، وما يفعله الأديب هو الانتصار لأصالة القيمة الإنسانية نفسها، والتشبّث بها والتعبير عمّا يعتمل في قرارة الفرد، وتكون الذات هنا تجلّياً للآخرين المغتربين عن ذواتهم الحقيقيّة المستلبة منهم باسم الشعب المغلوب على أمره.

ركّز الصيني جاو كسينغجيان في كلمته “دفاعاً عن الأدب” حين استلامه جائزة نوبل 2000 على أهمّية صوت الفرد، حين قال “إنّ الكاتب شخص عاديّ؛ ولعلّه أشدّ حساسيّة من سواه، لكنّ هؤلاء غالباً ما يكونون أكثر هشاشة، ولا يتحدّث الكاتب عادة كناطق رسميّ باسم الشعب، أو مجسّدا للحقّ والحقيقة. وصوته ضعيف حتماً لكنّه بالضبط صوت الفرد الأكثر أصالة”.

لفت كسينغجيان إلى أنّ خيارات الكاتب المتمسّك بصوته الخاصّ محدودة، وكتب “إذا سعى الكاتب وراء الفوز بالحرّيّة الفكريّة فعليه أن يختار إمّا الصمت التامّ أو الفرار. بيد أن تعويل الكاتب على اللغة وعدم تمكّنه من الكلام لمدة طويلة إنّما يعادل الانتحار. أمّا الكاتب الذي ينشد تجنّب الانتحار أو الصمت، وعلاوة على ذلك، أن يعبّر عن صوته الخاصّ فليس لديه أي خيار سوى الذهاب إلى المنفى”.

يواجه الأدب محنة الإلغاء والتقييد في ظلّ الأنظمة الشموليّة التي تعادي التمايز وتحاول احتكار القيم والحقائق، بحيث تبرز أيّ اختلاف عن خطّها المفروض خروجاً عن خطّ الجماعة التي تزعم الحكم باسمها، ويوصف الخارجون عن ذاك الخط بالخارجين عن القانون.

تكمن الخطورة في احتكار القانون والحقّ والعدالة، وسلب الآخرين حرّياتهم وحقوقهم واتّهامهم بالوقوف في وجه التقدّم، ويكون صوت الفرد الأديب الجدارَ الأخير لحماية أسطورة الشعب الحقيقيّة، كما تكون كلمته المؤرّخة للمتغيّرات سجلّاً غير رسميّ، لكن موثوقا وآمنا، لكنوز الفكر ومكنونات الذاكرة الجمعيّة ووثائق وفيّة لها.

15