هبْ أن الزمن غير موجود

تماما مثل طبيعة الوعي ومصدر الكون واشتغال الحياة، لا يزال الزمن لغزا محيّرا، رغم أن الإنسان سعى منذ القدم إلى فك مغالقه. فالزمن لدى أرسطو هو مقياس لتغيّر الأشياء المتواصل، والمرور من حدث إلى آخر، ما يوحي بألا وجود للزمن حين لا يحدث أي شيء؛ أما نيوتن فقد قال بوجود زمن مطلق يمضي في معزل عن العالم وظواهره.
ويزداد الأمر تعقيدا حين يؤكد أينشتاين أن كلاهما على حق، ففي رأيه أن تعريف أرسطو صائب، وأن ما حدسه نيوتن عن وجود سداة تنسج الوقت صحيح هو أيضا، ويعني بالسداة هنا مجال الجاذبية، ولكن ذلك المجال ليس مطلقا ولا متجانسا، بل هو عرضة للتغير.
قد يبدو ذلك منافيا للواقع، ولإدراكنا الطبيعي للعالم، وننسى أن المظاهر خادعة، وأن الحواس تخطئ، فالشمس توهمنا بأنها تدور فوق رؤوسنا، والحال أننا نحن الذين يدورون.
كذلك الزمن الذي يتبدى واقعا كونيا وتيارا يجذبنا جميعا بنفس السرعة، وما هو في الحقيقة سوى وهم، إذ كشفت الفيزياء الحديثة أشياء مذهلة، أبسطها وأكثرها مباشرة أن الزمن لا يمضي بنفس السرعة حسب الارتفاع عن سطح البحر، بل هو أسرع في مرتفع جبلي منه في سهل منبسط.
ولئن كان أينشتاين قد حدس ذلك منذ قرن من الزمان، فإن بمقدور العلماء اليوم أن يقيسوا ذلك الفارق في المختبر. حسبهم أن يضعوا ساعتين بالغتي الدقة، واحدة في أعلى السلم وأخرى في أسفله، كي يتأكدوا من أنهما لا تعطيان الوقت نفسه، والسبب أن الأولى أبعد مسافة عن مركز الأرض، حيث الظواهر أكثر بطئا.
بل إن الحاضر نفسه لا يتحدد إلا من حولنا، فلا شيء يحدث هنا وهناك في الكون بشكل متزامن، وإن فكرة وجود حاضر محدد عبر الكون لا تستقيم علميا، ومن ثمّ يمكن القول إن الزمن لا وجود له.
ذلك ما طرحه عالم الفيزياء كارلو روفيلّي في كتاب بعنوان “هبْ أن الزمن لا وجود له؟” كان أكد فيه أن ما من جسد أو ظاهرة في الكون إلا أنتجت زمنها، وإيقاعها الذي يحدده أثر الكتل المجاورة، وما من حركة إلا خفضت الظواهر وقلصت الزمن.
يقول القديس أوغسطينوس معبّرا عن حيرته في تحديد مفهوم الزمن “ما هو الزمن إذن؟ إن لم يطرح عليّ أحد هذا السّؤال فأنا أعرف الإجابة. أمّا إذا سألني عنه شخص ورغبتُ في أن أوضّح له المسألة، فلا أدري بما أجيب“.
وتلك حالنا، بصراحة، بعد قراءة الكتاب.