مفكر سويسري يكشف أسرار الحب في الأساطير والميتافيزيقا

“الحب” هو الإحساس والفكرة التي عايشها كل إنسان على وجه الأرض، إنه ذاك المتجذر في الذات البشرية منذ فجرها، لكن ورغم ذلك بقي هذا الإحساس مجهولا عصيّا عن التعريف والإحاطة الكافية به، وكلما تقدم الإنسان في التجربة والزمن والتطور أصبح الحب أكثر ضبابية من ضبابيته الأولى.
يمكن مناقشة مسألة الحب من مقاربات مختلفة: علمية أو تأريخية أو سوسيولوجية أو سيكولوجية؛ لكنّ قارئ كتاب”الحبّ: مقدّمة قصيرة جداً” للباحث السويسري رونالد دي سوسا، سيلحظ أنّ المؤلف يوظّف توليفة من كلّ هذه المقاربات وإن كانت المعالجة الفلسفية هي الطاغية على الكتاب بفعل التدريب الفلسفي الأكاديمي والمهني للمؤلف الذي جعل لغته الفلسفية سلسة متناغمة بعيدة عن الجفاف الفلسفي المعهود في المصنّفات الفلسفية المعتادة.
يفتح الباحث آفاقاً جديدة أمام القارئ الشغوف الذي يطمح في الاستزادة بشأن موضوعة الحب ومفاعيلها العظيمة في الحياة.
البحث الفردي عن الحب
يظلّ الحب (وهنا أعني الحب الرومانسيّ) واحداً من أكثر المواضيع استحواذاً على عصرنا هذا، وربما قد يجادل البعض أنّ هذا الاستحواذ ذاته نتاجٌ لحقيقةِ أنّنا لطالما سُحِرْنا بفتنة الحب إلى حدّ غدونا معه نعذِّبُ أنفسنا، كما خلقنا حاجة موهومة يشوبها الإرباك للحب نعجز ربّما عن إدراك كنهها أو الإيفاء بمتطلّباتها.
إنّ بعضاً من أعظم الكتّاب الذين كتبوا عن “الحبّ” جعلوا من الحبّ صنواً للمحنة المُعيقة، أو نوعاً من جنونٍ ما، وربّما حتى مرضاً مميتاً لا شفاء يرتجى منه، ولكن برغم كلّ هذا فإن الحب أمرٌ حقيقيّ حتماً: هو أمرٌ ثمين يمكن بلوغه وحيازته في الوقت ذاته، ومتى ما عرفنا أن نشقّ طريقنا وسط التيه الضبابي الميتافيزيقي فإن الأساطير المضلِّلة والاستعارات الخطيرة -التي جعلت الحب أمراً مخادعاً- ستنقلب حتماً وستغدو الرومانسية حينها موضوعاً قابلاً للفهم والاستيعاب ومتناغماً تماماً مع حياة عاقلة هادئة وسعيدة معاً.
يبقى الكثير ممّا كتِب بشأن الحب، وبرغم كلّ شيء، متماهياً مع ما كتِب عن الحب طوال الثلاثة آلاف سنة التي شهدْنا فيها رسائل الحب والمقالات المطوّلة عنه إلى جانب الشعر الرومانسي، واتخذت كلها واحداً من موقفيْن: إمّا موقف غير ناقد ومفعمٌ بحسّ الإحراج من تناول مادة الحب وإما موقف ساخرٌ طافحٌ بالمرارة يدافع عن مصالح المرء الشخصية فيما يجترحه من قرار. نحن مُرغَمون في نهاية الأمر على الاختيار بين طائفتي “المُعسّرون” و”المُيسّرون” في الحبّ. وإن نظريات هؤلاء تمتدّ على مدىً واسع يبتدئ بالتجريدات الضبابيّة ويمرّ عبر التفاصيل العملية الفضفاضة ثمّ ينتهي بالتفاصيل العملية الإجرائية المفرطة التي تستحيل في نهاية الأمر ما يشبه دروس الحصص المدرسية، ورغم أنّ تلك النصائح المبثوثة في الكتب والأدبيات المنشورة ثمينة بلا شكّ، فإنّها قلّما أزاحت النقاب عمّا تعنيه طبيعة الحبّ وفائدته لنا، فثمة أحجيات خبيئة دوماً في الحب.
الحبّ قد يكون موضوعا عاديا للغاية، وأدنى من أن يكون أمرا كونيا، كما أنه ليس جوابا لكل معضلات الحياة
كيف يمكن لنا أن “نجد” الحب، أم أن الحب أمرٌ نخلقه نحن؟ لِمَ نجد الأمر متلفّعاً بالصعوبة أحياناً عندما نحبُّ، أو عندما نبوحُ بحبّنا، أو عندما نبتغي التعبير عن حبّنا بطريقة مقبولة وكافية؟ لِمَ يمض الحبّ أحياناً في المسار الخاطئ، ولِمَ نختار أحياناً الشركاء غير المناسبين لنا؟ يُعامَلُ الحبّ غالباً على أنّه لا يعدو جائحة حماسةٍ جنسية مرافقة لطور البلوغ، ولكنّ هذه الخرافة الأسطورية -إلى جانب عدد آخر من نظيراتها المدمّرة- كفيلة بجعل الحب الناضج أمراً يستعصي بلوغه بسبب سوء إدراك طبيعته.
الحبّ أمرٌ “طبيعيّ” بالطبع وهو ما يعني القول إنه يتبع بيولوجيّتنا “تركيبتنا الأحيائيّة”، ولكنّه ينطوي على هيكليّة اجتماعيّة ومسؤولية فردية في الوقت ذاته. وتبقى الأطروحة الأساسية قبل كلّ شيء آخر هي أنّ الحبّ ينبغي اكتشافه، وأن يُعادَ اكتشافه من قبل كلّ جيل وكلّ ثنائيّ متحابّ.
أحجيات الحب
يشعر أغلبنا بعدم “اكتماله” من غير الحب، وليس المقصود بهذا القول محض الشعور بضرورة وجود من يحبّنا، بل وجود ما هو أعظم أهميّة للروح وهو أن نُحِبّ نحن حقّاً: هذه موضوعة تغور بعيداً في الأزمان القديمة، ومثالها الأكثر شهرة هو التسليم الذي أذعن إليه أفلاطون إزاء أريستوفانيس في حلقة أفلاطون الدراسية الذائعة الصيت حيث لم يعُد يُفهَم الحبّ بأقلّ من كونه “اكتمالاً” لنِصفَيْ روح ما كان في مقدورهما الاكتمال بغير الحبّ.
ويسعى كتاب البروفسور دي سوسا إلى استكشاف تلك المواضعة الفاتنة -التي تشكّل مصدراً جاذباً لنا- والمؤسّسة على الإحساس الذي نحاول بواسطته، وباعتبارنا أفراداً مستقلين نتمتّع بذاتيّتنا الخالصة، السعي نحو “إكمال” أنفسِنا، أو لنقل الأمر بطريقة أكثر حرفيّة ودقّة: السعي لإعادة تعريف أنفسِنا مع -ومن خلال- شخصٍ آخر، وفي الوقت الذي نعيدُ فيه تعريف أنفسِنا فإنّنا نعمل أيضاً على إعادة تعريف الحبّ ذاته.
“الحبّ في حقيقة الأمر موضوعٌ عادي للغاية، وهو أدنى من أن يكون أمراً كونياً، كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة، ولكنه قد يكون أحياناً أمراً فاجعاً وكارثيّا”، بهذه العبارة التمهيدية المنسوبة للفيلسوف روبرت سولومون يفتتح المؤلف الفصل الأول من الكتاب، ثمّ -ومن غير تمهيد- يشير المؤلف إلى جملة حقائق صادمة اختبرها الكائن البشري بشأن الحب منذ بواكير حياته الأولى.
ويذكر دي سوسا كيف “دُفِع بعض الناس دفعاً إلى الجنون بسبب الحب، ومات البعض الآخر منهم في سبيله، في حين تسبّب الحب في دفع آخرين إلى ارتكاب جريمة القتل… وفي العادة فإن كلاً منّا يتوقع هذا الأمر عندما يشاهد أو يسمع شيئاً يختص بموضوعة الحبّ التي تبدو دوماً كمأساة طاغية ونبدو معها نحن وكأننا قد فهمناها على هذا النحو، ويبدو من قبيل الأمور المؤكّدة أن شيئاً من هذا قد حصل لكلً منّا. أنت نفسك، عزيزي القارئ، ربّما تكون قد دُفِعتَ لحافة الجنون يوماً مرّة أو مرّتين وشعرتَ حينها بطغيان الانفعال المصاحب لتجربة التشارك في الحب أو ربّما تكون شعرتَ بالكرب المرير المقترن بالإحساس الباطني غير المعلن للحب غير المتبادل”.
ويضيف “لطالما استمدّ الشعراء والموسيقيون والفنانون والفلاسفة إلهامهم من ذلك الشعور المنعش بالحب ولطالما حفّزهم ذلك الشعور… ولكن أغلبنا عندما يحاول وصف الحب أو الحديث عنه فإنّه سرعان ما ينزلق في تفاهة”.
لكن ما هو هذا الشيء الذي يدعى “الحبّ”؟ هكذا يتساءل المؤلف مُنطلِقاً من محاولة الإجابة على هذا التساؤل يمضي المؤلف في رحلته الشائقة مع الحب ابتداءً من الحضارة الإغريقية وحتى يومنا هذا.