"مجرد نفس بعيدا".. محاولات يائسة للنجاة في مدينة منكوبة

اعتدنا في أفلام الخيال العلمي على مشاهدة أفلام الانهيار العظيم، وهو موضوع انتشر بكثرة من خلال العديد من التجارب السينمائية، الأرض وقد ضربتها جائحة أو وقعت فيها حروب ذرية مدمرة أو صراعات عرقية بين الدول أفضت إلى دمار كامل، تلك علامة هذا النوع المميز من تلك الأفلام.
الطبيعة وقد تمردت وألقت بعواصفها وأعاصيرها حتى خرج الأمر عن السيطرة وسط ذعر جماعي، كل ذلك وغيره صار شكلا فيلميا مألوفا في سينما الخيال العلمي. ويمكننا أن نعد العشرات من الأفلام التي عالجت ذلك العالم الديستوبي والتي قدّمت أشكالا ومعالجات سينمائية متنوعة اجتذبت عشاق هذا النوع الفيلمي.
وفي الفيلم الفرنسي “مجرد نفس بعيدا” للمخرج دانييل روبي هنالك معالجة مختلفة للثيمة ذاتها، من خلال ضباب وغازات سامة تظهر فجأة فتبيد أعدادا غير محدودة وتصبح مدينة باريس مهجورة ومهددة بالخراب.
وفي وسط هذه التراجيديا يعود ماثيو (الممثل رومان دوريس) من سفرة إلى كندا، فيجد أمامه الكارثة متجسمة وتتصاعد فجأة في ما يشبه العاصفة الترابية التي تزحف بقوة على الأرض وعبر الأزقة والشوارع، فلا يسلم منها سوى من يصعد إلى طبقات عليا مرتفعة أو من يستخدم قناني غاز الأوكسجين.
وخلال ذلك تتجسم أمامه محنة ابنته الشابة سارا (الممثلة فانتين هاردوين) التي تعيش في كبسولة زجاجية مغلقة تمنعها من التفاعل مع الخارج بسبب ضعف قدرتها على مواجهة البكتيريا الخارجية والتلوث، فكيف وقد عمّ التلوث والغازات السامة كل مكان؟
يجري التركيز على ماثيو، وهو يتنقل في أنحاء المدينة المنكوبة فلا يجد سوى الناس صرعى والسيارات مكدّسة والشوارع مهجورة، وخلال ذلك يخاطر بحياته من أجل إنقاذ ابنته وإنقاذ طليقته آنا (الممثلة أولكا كوريلينكو)، فيصاب بجروح في حين تلفظ طليقته أنفساها الأخيرة بسبب نفاد الأوكسجين وهي في طريق عودتها لإنقاذ ابنتها.
ولا شك أن القصة الدرامية برمتها كانت كافية لأن يتم البناء عليها من خلال إيجاد خطوط سردية ترتقي بالعمل وكذلك زج المزيد من الحبكات الثانوية، لكن الفيلم يكرس النمط السائد في العديد من الأفلام الفرنسية التي تعتمد على الحوار ركيزة أساسية إلى حد كبير.
وكما قال محرّر موقع ومجلة “هوليوود ريبورتر” فإن هذا الفيلم يحاكي فيلم خيال علمي متواضع من الإنتاج الهوليوودي، ولعل السبب في ذلك هو عدم وجود عناصر إضافية تدعم الدراما الفيلمية، إذ بقيت الأحداث مقتصرة على ماثيو وتنقلاته وسط العاصفة.
ومع ذلك، فإن العلامة الفارقة والأكثر تميزا في هذا الفيلم الذي بلغت ميزانيته حوالي عشرة ملايين يورو، تمثلت في الاستخدام المكاني، فقد نجح المخرج وفريق العمل في رسم ملامح المدينة المنكوبة باريس وقد غطتها سحابة قاتلة من السموم، ونجح في تقديم صورة مقنعة من خلال مشاهد الخراب الذي عمّ المدينة.
ولأن سبيل النجاة الوحيد يكمن في تنفس هواء نقي، من خلال الارتقاء إلى الطبقات العليا، فقد صُوّرت أغلب مشاهد الفيلم من أعلى وظهرت باريس وهي مغطاة بضباب كثيف من الغاز، وهي أيضا علامة فارقة في الفيلم من خلال التصوير من أعلى.
ويضاف إلى ذلك محاولة ماثيو إنقاذ نفسه بالتنقل عبر سطوح المنازل لكي يصل إلى المكان الذي توجد فيه ابنته بعد نفاد أسطوانة الأوكسجين التي يحملها.
في المقابل كانت هنالك مساحة من عدم الإقناع بسبب غياب السلطات شبه التام عن فعل شيء سوى المشاهد التي جمعت ماثيو مع أفراد من الجيش يوزعون أقنعة الغاز وقناني الأوكسجين، وما عدا ذلك فقد بقي ماثيو وآنا محوري الأحداث الأساسيين.
وفي إطار بث حبكات ثانوية لتعزيز الدراما وانتشال أحداث الفيلم من التكرار والرتابة، كانت هنالك مشاهد ملاحقة كلب وحشي لماثيو وآنا والتي انتهت بسقوط ماثيو في النهر، ثم المواجهة الغريبة بين ماثيو ورجل شرطة والتي تنتهي بمقتل الأخير على يد ماثيو بشكل غير مقنع ودون تبرير درامي له.
وكما ذكرنا في بداية المقال، فإن كان هذا الفيلم ينتمي إلى نوع الأفلام التي تقدّم صورة الكوارث التي تدمر كل شيء، إلاّ أن ما جرى لم يكن يحمل تبريرا مقنعا ولا أحد يجد سببا لذلك؟ ولم نعرف أيضا هل شملت الكارثة البلاد بأكملها والعالم كله أم أن انفجار الغاز وقع في باريس أو في جزء منها؟
ويعاب على الفيلم أيضا استخدامه للحوارات بكثافة، رغم أن المشاهد كانت مقنعة بصريا، فيما لم ترتفع انشغالات الشخصيات إلى ما هو أبعد من حدود المعاناة السائدة يوميا من جراء العاصفة الضبابية السامة التي ضربت المكان، ليقدّم المخرج صورة متوازنة ومنطقية للمدينة المنكوبة.
ولأن النهايات السعيدة ضرورية أحيانا في أفلام قاتمة من هكذا نوع، فقد كان مفاجئا أن تتعافى سارا المريضة والمحتجزة في كبسولة تمنع عنها الاحتكاك مع العالم الخارجي، لتخرج إلى الشارع وسط العاصفة السامة، وهي تتنفس بشكل طبيعي على أساس أنها قادرة على تحمل تلك البيئة.