رواية برتغالية تجعلنا نعيد التساؤل: من نحن؟

أربعة أعمال روائية يتوقف كروش مع أبطالها، يحاورهم ويتتبع مصائرهم، بل يجعلهم يتناقشون سويا في بعض الأحيان أو يتشاجرون.
السبت 2018/09/22
كروش ينسج حكاية الضياع في متاهات الكتب ودورها في تشكيل حياة الراوي الواقعية

يمكن أن تصير الحيوات الافتراضية التي ننسجها في مصنع الخيال أكثر تأثيرا وعمقا وانسجاما مع تطلعاتنا، بل قد تسهم في صياغة رؤية جديدة لحياة واقعيّة رتيبة تبدو وكأنها مخططة سلفا، لتضفي على ألوانها الشاحبة ألوانًا برّاقة تمنحها حيوية ما. ذلك الدور الذي ينفرد به الخيال في حياة المرء هو ما يُود الروائي البرتغالي أفونسو كروش تصويره في أعماله الروائية. وعلى نحو أكثر سطوعا في روايته “الكتب التي التهمت والدي”.

قد تصلح العبارة التي أوردها الروائي البرتغالي أفونسو كروش في روايته “هيا نشتر شاعرا” عن الخيال لتفسير الفكرة التي تبدو مُهيمنة على ذهنه في أعماله الروائية. “الخيال ليس هروبا من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاما مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية”؛ فبينما كان كروش في روايته السابقة معنيا بتفصيل دور الفن في إضفاء جانب إنساني على حياة مادية باهتة، يعود في “الكتب التي التهمت والدي” للغوص في أعماق هذا “البناء البديل” الذي يستغرق أبطاله ويلتهمهم ويُوجّه حياتهم الواقعية.

الواقعي والافتراضي

ثمة واقعان تجري من خلالهما أحداث رواية “الكتب التي التهمت والدي”، الصادرة في ترجمة عربية حديثا عن دار مسكيلياني للنشر، واقع فعلي للراوي “إلياس” الذي تحكي له جدته ما لمَّ بوالده “فيفالدو” جراء انغماسه في القراءة.. “مات على إثر أزمة احتقان موضعي”، وواقع آخر افتراضي يتوغل فيه الراوي ليتعرف على هذا العالم الذي “التهم والده”، وما بين الواقعين يجعل كروش الغلبة لذلك الافتراضي الذي يفرض سطوته على حياة الراوي ووالده من قبله، ويُشكل نظرته إلى الأمور من حوله ويحاول من خلاله تغيير أفكاره حول أزمات واقعه الفعلي.

واقع فعلي وواقع افتراضي
واقع فعلي وواقع افتراضي

يبدأ كروش روايته بما روته الجدة عن الوالد الذي انغمس في القراءة على هامش عالمه الواقعي وعمله المُضجر بإدارة الضرائب. تقول الجدّة “كتاب جيد له أكثر من قشرة واحدة، وهو لا بدّ بناية من عدة طوابق، لأن الطابق الأرضي لا يليق بالأدب. إنه ملائم أكثر لنشاط البناء ومريح لمن لا يحب صعود الأدراج ونافع لمن لا يقدر على ذلك” ومن هنا كان “الوالد” المروي عنه قد لبسَه الأدب لأنه قرأه من طوابقه المرتفعة.

في عيد ميلاده الثاني عشر سلّمت الجدة لحفيدها مفتاح “علِّية الوالد” الحاوية لجميع الكتب التي قرأها بناء على وصيّته. كانت رواية “جزيرة الدكتور مورو” لجورج ويلز العالم الذي ولج منه الوالد إلى القراءة، وهو ذات المدخل الذي بدأ منه الابن معايشة شخصيات الروايات الأربع التي منها  تتشكّل بنية الرواية الداخلية.

البطل في هذه الرواية وفي رواية كروش السابقة ليس الحبكة أو الأحداث التي تتحرك على نحو سلس وتبدو أحيانا أشبه بـقصص ما قبل النوم المُسليّة والطريفة، لكنه الفكرة التي يعمد إلى صياغتها وتحويرها في بنية روائية سلسة ليكون لها الحضور الأقوى والأكثر تأثيرا، ورغم بساطة السرد وسلاسته يتبدى عمق التعبير عن الفكرة في الحوارات التي يُجريها الراوي هنا مع أبطال أعمال روائية كلاسيكية بارزة حول مصائرهم وأفكارهم.

متاهات الكتب

يمكن أن تصير الكتب متاهات يصعب الخروج منها، بل قد تكون متاهات لا يراد الخروج منها، فحسب ما يورد المؤلف “إننا نتشكل من الحكايات، وليس من الجينات ورموزها، ولا حتى من اللحم والجلد والعضلات والمخ”، وكما يورد على لسان بورخيس “ثمة عدة أماكن يمكن أن يتوه فيها المرء، لكن لا يوجد مكان أكثر تعقيدا من مكتبة، بل إن الكتاب الواحد يمكن أن يمثل مكانا نضيع فيه ونتوه”. من هنا يشرع كروش في نسج حكاية الضياع في متاهات الكتب ودورها في تشكيل حياة الراوي الواقعية.

أربعة أعمال روائية يتوقف كروش مع أبطالها، يحاورهم ويتتبع مصائرهم، بل يجعلهم يتناقشون سويا في بعض الأحيان أو يتشاجرون، من هذه الحوارات يتوقف كروش مع أبطال هذه الروايات مع عدد من الأفكار؛ حول الخير والشر وما تعنيه إنسانية الإنسان، ودور الضمير الأخلاقي في رؤية الإنسان للعالم، ومحركات الصدق والكذب، والذاكرة والأولوية التي يضعها الإنسان للماضي في توجيه مستقبله وحاضره.

في رواية ج.هـ. ويلز “جزيرة الدكتور مورو” يجد إدوارد برينديك نفسه بعد غرق السفينة التي كان على متنها وسط جزيرة دكتور مورو الذي يجري تجاربه على الحيوانات ليجعلها بشرية. حين غادر برينديك الجزيرة لم يعد قادرا على التعايش مع البشر، انزوى وخصص معظم وقته للقراءة، واستشار طبيبا متخصصا في الأمراض العقلية استمع إليه وساعده.. هكذا تنتهي رواية ويلز، إلا أن كروش يتّتبع في رحلة متخيلة مصير برينديك وحديثه مع طبيب الأمراض العقلية ويكتشف في رحلته التخيلية أن برينديك تحوّل بالفعل إلى كلب، يقرر الراوي أن يصطحبه معه ويرافقه في رحلته مع الروايات الأخرى وأبطالها.

الحيوات الافتراضية في متاهات الكتب
الحيوات الافتراضية في متاهات الكتب

يخوض إلياس رحلة أخرى مع رواية روبرت لويس ستيفنسون “دكتور جيكل ومستر هايد” التي تتحدث عن رجل يتناول جرعة معينة تؤدي إلى وجود أنا آخر خال من عذاب ضمير ومتحرر كليا من الضمير الأخلاقي وهو “هايد”، الجزء المظلم في كل واحد منا، ويصحبه فيها الكلب “آرغوس” الذي هو برينديك بطل رواية “جزيرة الدكتور مورو”. يُجري الراوي محاورات متخيّلة مع “هايد” ومقارنات بين هايد بهيئته البشرية وسلوكه البدائي وأفعاله الشريرة وبين برينديك في هيئته الحيوانية وأصله الإنساني. ينطلق الراوي نحو ثالث حوار متخيّل له مع راسكولنيكوف بطل رواية ديستوفيكسي “الجريمة والعقاب” الذي كان يُبرر ارتكاب الجريمة إن كان القصد نبيلا، ويمارس القتل انطلاقا من قناعاته تلك، ومع تقدم الأحداث يتملّكه الندم فيسلم نفسه لينال ما يستحقه من عقاب.

يلجأ كروش إلى التفكير في مصير راسكولنيكوف بعد خروجه من السجن. يلتقي الراوي في رحلته المتخيلة مع السيدة صوفيا مارميلادوفا لتحدثه عن وحشية راسكولنيكوف الذي اعتمد القتل كمنهجية للتخلص من شعوره بالذنب بعد خروجه من السجن “إذا صار القتل شيئا مبتذلا وعاديا، فإنه سيكف عن تأريقه” هكذا كان يظن راسكولنيكوف. أثناء حديث إلياس مع مارميلادوفا، ألقت ببعض الأوراق القديمة في موقد النار وقالت “الورق يحترق عند 451 درجة فهرنهايت” وهي الجملة التي قادت الراوي نحو راوية “فهرنهاريت 451” لراي برادبري التي تدور أحداثها في المستقبل في عالم تحرق فيه الكتب وفيه قرر مجموعة من المتمردين على هذا النظام أن يحفظوا الكتب عن ظهر قلب، إلى أن صاروا أشبه بالكتب البشرية.

بعد قراءته لهذه الرواية، يعاود بطل “الجريمة والعقاب” الظهور مرة أخرى ويجري الراوي حوارا معه. يخبره راسكولنيكوف عن “الناس الذين يصبحون كتبا”، عن الناس الذين يحفظون الكتب لكنهم لا يقامون رغبتهم في إضفاء التغييرات عليها، وهو ما قررّ أن يفعله، أن يجري التغييرات على ما حفظه من مسيرته في رواية “الجريمة والعقاب”.

يقول راسكولنيكوف إنه يمكن أن تكون تلك الآلية فاعلة في حياة البشر بخصوص ذكرياتهم وماضيهم، فإن كانت شخصيات الخيال لا تملك تغيير ماضيها لكن الشخصيات الواقعية يمكنها أن تفعل حينما تُغير الطريقة التي بها ترى الماضي وتفهمه. وهو الذي سيتعين على إلياس تطبيقه على واقعه الفعليّ بخصوص ما يشعر به من وخز ضمير جراء تسببه في موت صديقه “بومبو” المصاب بداء السكري، بعدما سخر من بدانته ومن مرضه أمام حبيبته فتناول كمية كبيرة من الحلوى ودخل في غيبوبة سكر إلى أن مات.

يظهر عمق تأثير حوارات ذلك العالم الافتراضي الذي خلقه إلياس في واقعه الافتراضي، إذ ينهي بقوله “لقد ارتكبت طيلة حياتي عدة أخطاء، والآن بقي لي كما هو شأن راسكولنيكوف، أن أنظر من جديد إلى حياتي الماضية وأن أحاول فهمها كما يحاول أعمى أن يحدس فيلا، ومن يدري ربما أتسامح مع ذاتي وأتعلم العيش مع السيد “هايد” الذي يستأجر شقة داخل رأسي“.

15