صباحات المقاهي ومساءاتها

المشجعون العرب لبرشلونة وريال مدريد وبايرن ميونيخ وليفربول وغيرها، يتحدثون عن هذه الفرق بضمير المتكلم ذي التحيز الضمني لهوية محددة: “نحن الأفضل” أو “نحن الذين فزنا أو سنفوز”.
الأحد 2018/09/16
المستطيل الأخضر يعوضهم عن الإحباط في دوائر الأرض والسياسة

يبدأ نهار المقاهي في الحواضر العربية باستقبال الرواد من كبار السن. وفي المساء، يرتاد الشباب ذكورا المقاهي الشعبية والأنيقة، أو يحتشدون لمتابعة مباريات كرة القدم عبر شاشات “بلازما” كبيرة حرصت على جلبها المقاهي الشعبية، فضلا عن تلك العصرية الأنيقة. فئتا الشيوخ والشباب، تقتسمان أوقات الصباح والمساء في المقاهي. الأولون يلتقون صباحا والأخيرون يتجمعون في المساء، إما اثنين اثنين، شابا وفتاة، يحاولان ترتيب أحلامهما صورة صورة، أو في اكتظاظ شبابي يتابع مباراة في كرة القدم!

يظل القلق والفراغ عنصرين مشتركين بين الكبار والصغار. الأولون يتحدثون عن ماض لن يعود، ويستأنسون بالصحبة والذكرى، ويستمزجون آراء بعضهم بعضا، في كيفية التغلب على مصاعب الحياة في خواتيمها، ويتوسلون مواساة بعضهم بعضا، فيما يطرأ من مشكلات ومرارات وأمراض صحية، ويميلون إلى التسرية عن نفوسهم لإبعاد الهم والحزن، فيقتنصون لحظات من الراحة النفسية.

أما الشباب، اثنين اثنين، ذكرا وأنثى، فإنهم يحاولون استشراف المستقبل، والتواصي على التضامن لصنع السعادة، ومواجهة الصعاب، واقتناص الفرص والتعهد بالمحبة المستدامة.

يتخلل ذلك حديث في الإعجاب المتبادل. وتتبدى في مساءات الاحتشاد لمتابعة مباريات كرة القدم كل الانعكاسات النفسية لعنصري الفراغ والقلق، إذ تندفع الذات الإنسانية التي سُدت أمامها آفاق الوصول إلى حال الاقتدار، إلى مسار ممتد للإحساس بالذات هو مجرد طريق موهوم، كالطرق الافتراضية التي تفتحها ألعاب الحواسيب والهواتف الذكية. فالمشجعون العرب لبرشلونة وريال مدريد وبايرن ميونيخ وليفربول وغيرها، يتحدثون عن هذه الفرق بضمير المتكلم ذي التحيز الضمني لهوية محددة: “نحن الأفضل” أو “نحن الذين فزنا أو سنفوز”.

وهذه ظاهرة تفتح لباحثي علم النفس بابا واسعا للتحليل بمنطق الأسباب. ففي مدينة رام الله المحتلة والمعرضة للسطو العسكري الإسرائيلي في كل لحظة، يخرج الشباب من الجنسين، بالسيارات ليلا، بعد انتهاء مباراة إسبانية، فيتظاهرون بمنبهات الصوت والرؤوس النافرة من النوافذ، للتعبير عن ابتهاجهم. كأنما عنفوان الآخرين، في المستطيل الأخضر، يعوضهم عن الإحباط في دوائر الأرض والسياسة.

والشباب العاطلون أو فقيرو الحال أو محدودو الدخل، في الحواضر العربية، يهتفون فرحين بتسجيل الأهداف التي تمدهم بالتعويض النفسي، عن التسديدات الطائشة أو المُضيّعة في مباريات الحياة، ويتجاوز الأمر حدود التسلية، علما بأن لا علاقة للرابح والخاسر، بهموم وشقاء هؤلاء الفرحين أو المحزونين للربح والخسارة!

في مساءات المقاهي العربية وصباحاتها، يذهب بنا التأمل إلى بعيد. الصحف الورقية تختفي، أما شبكة العنكبوت فلها حكاية أخرى!

24