يوسف الناصر رسام وهب الغربة حقولا من الأشجار

لم يكن صعبا على ابن الجنوب العراقي أن يمزج بين الأرواح الهائمة التي تتوزع بين الأشكال والروائح والأصوات القادمة من مكان لا يُرى.
الأحد 2018/09/16
من الرسم الخالص إلى التعبير الشعري

 “منذ مرحلة مبكرة من حياتي الفنية كنت أكثر ميلا إلى التحديق في الجانب المظلل للشجرة أو الكرسي أو الجسد من الجانب المغمور بالضوء، وأنقاد بيسر إلى التراجيديا التي أجد فيها طمأنينة، لا لأنها تطهير للنفس بل لأنها البلوى التي توقظ الحواس وتفتح للوعي سبله السرية، كنت أكثر ميلا إلى التحديق في الانفعالات الباطنية والقوى المحركة الغامضة والنوازع غير المدركة”. هكذا يوسف الناصر في مقدمة معرض “تمارين في اليأس”.

غربته هي مرآة حياته. كانت حياة صعبة دائما. مَن عاش تلك الحياة لا يمكنه القبول إلا بفن صعب. هي ليست فكرة جديدة. ما جلبته غربته هو الجديد، فنا غريبا مثله. وهو ما يؤكد قبوله بخسارات الغريب. ذلك القبول الذي فتح أمام فنه آفاقا واسعة. 

كان الناصر حريصا على أن لا يُثقل فنه بأزمات، هي ليست من النوع الذي يكبل المصير البشري بشروطه. هناك خيط من الأمل يحمله الرسم، بالرغم من أن لا شيء في الواقع يبعث على الأمل.

وضع فنه في مكان لا يصل إليه الجدل البشري المباشر. إنسانيته فرضت عليه أن لا ينحاز إلى ثقافة قطيعية، لم يكن الرسم بالنسبة لها سوى خادم ثانوي. فللفن من وجهة نظره الحق في أن يكون ذلك الطائر الذي لا يمكن أن يؤسر.

يكتفي الناصر برسم ورقة لكي يتأكد من أن الشجرة موجودة. هناك غابة تقف وراء الشجرة. غابة من الأشكال والروائح والأصوات. لم يكن صعبا عليه وهو ابن الجنوب العراقي أن يمزج بين الأرواح الهائمة التي تتوزع بين الأشكال والروائح والأصوات القادمة من مكان لا يُرى.

غربته هي مرآة حياته
غربته هي مرآة حياته

ما من شيء صعب. اليأس لا يشبه نفسه دائما. المطر الأسود الذي سقط على العراق لا يمكن رسمه عن طريق الوصف. وليس هناك إلا ضوء مر سيكون القبض عليه بمثابة خيط نجاة. لم يكن هناك ما يُسر سوى الرسم إذن. تلك خلاصة حياة هي في حقيقتها أشبه بمغامرة روبنسن كروزو.   

رسم الناصر كل شيء رآه، لكن كما حلمه. فهو كائن عنيد لا يستسلم للواقع. كانت هناك جزر كثيرة في حياته استطاع أن يقفز بينها بخفة لينتهي إلى الإقامة في جزيرة، لا يصدق أنها ستكون المكان الأخير الذي يكتب فيه يومياته. الرسم بالنسبة له مسألة وجودية كالشعر. لذلك فإنه يفضل تأجيل كل شيء إلى وقت، تكون الملائكة متفرغة فيه لما لا يُوصف. لقد عاش الناصر حياته من أجل أن يصف ما لا يوصف.

كان هناك مطر أسود

ولد الناصر في العمارة جنوب العراق عام 1952. عام 1977 أقام معرضه الشخصي الأول بعد تخرجه من فرع الرسم، أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. غادر العراق عام 1979 إلى بيروت، حيث عمل هناك في صحف ومجلات المقاومة الفلسطينية. أقام معرضه الشخصي الثاني هناك عام 1981.

 بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 غادر بيروت إلى دمشق ومنها إلى قبرص إلى أن استقر به الحال قبل أكثر من ربع قرن في لندن. هناك أقام مرسمه الذي كان بمثابة صالة للعروض الفنية وقاعة احتضنت الكثير من الندوات واللقاءات الفكرية والفنية.

أقام الناصر معارض شخصية في أوسلو وبروكسل ولندن ودمشق ولاروتشيل الفرنسية. عام 2003 فيما كانت الطائرات الأميركية تقصف بغداد لم يجد أمامه من مخلص سوى الرسم الذي قاده يومها إلى عالم ملحمي كان المطر الأسود مادته الرئيسة. يومها رسم بإيقاع سريع
لوحات بالأسود وحده، هي في حقيقتها أجزاء مقتطعة من لوحة واحدة، كان يُقدر أنه لن ينتهي منها. عرض مقاطع من مطره الأسود في شفيلد عام 2003 وفي ليفربول عام 2004.

في “مطر أسود” اختصر الناصر المسافة التي تفصل بين التخطيط والرسم. وهو ما فعله في أوقات سابقة من غير أن يعتبره جسرا إلى عاطفته التي ارتطمت بسبب صدمة الغزو الأميركي بجدار الحاجة إلى التعبير. ولأن الناصر كان قد مارس الكتابة من خلال عمله في صحيفة “الحياة” فلم تكن تعوزه القدرة على الفصل بين ما هو فني وما هو أدبي.

كانت تجربة “مطر أسود” فرصة لكي يعيد النظر في كل شيء من حوله وفي أدواته وهو الذي تمكن منها غير مرة من غير أن يرغب في تطويعها. مثله كانت تلك الأدوات متمردة ومختلفة وعاكفة على أسئلتها التي لا تستثني شيئا من شغبها.

الناصر يكتفي برسم ورقة لكي يتأكد من أن الشجرة موجودة
 الناصر يكتفي برسم ورقة لكي يتأكد من أن الشجرة موجودة

يمكنه أن يقول في كل لحظة “الرسم مسألة حياة. أن ترسم يعني أنك تعيش حياتك بعمق ونزاهة”.

في سلسلة من اللوحات رسم الناصر أشجارا. يظن المرء لأول وهلة أن تلك الأشجار قريبة من شجرة الفرنسي بوسان التي تفرض سيطرتها المطلقة على المشهد، بعيدة عن شجرة الهولندي موندريان التي قادته إلى التجريد الهندسي.

غير أن شجرة يوسف الناصر هي مزيج من الواقع وظله الذي لا يشبهه ولا يذكر به. من الحياة وفكرتها التي تتجاذبها قوتا الأمل واليأس. من الزمن وإيقاعه الذي يخترق الفصول الأربعة بأجراسه. إنها شجرة تحلم وتتألم وتحنو وتتأسى وتبكي وتقاوم.

لا أحد من بين الرسامين العرب الذين جايلوه رسم أشجارا، لا لشيء إلا لأن الرسام في العالم العربي نسي الرسم الحقيقي وصار ينفذ وصفات جاهزة تحت تأثير الأسلوبية، وهي نافذته التي يطل من خلالها على السوق. لقد نسى الرسامون العرب الطبيعة وهي مصدر الجمال الذي هو غاية الرسم. واحدة من أعظم مناقب هذا الرسام أنه برغم تمرده العميق لا يزال متمسكا بحقيقة الطبائع التي تكمن وراء فكرة أن يكون المرء رساما.

إنه لا يفكر في الهروب من الرسم بل كل ما يفكر فيه هو أن يقوى على أن يهرب إلى الرسم. لذلك فإنه يرضى أن تهزمه الحياة في مقابل أن يسعده الرسم الذي سيتمكن من خلاله أن يعيش الحياة التي تكسبها رسومه مزيدا من النضارة.     

شيء من إلهامه

غابة من الأشكال والروائح والأصوات
غابة من الأشكال والروائح والأصوات

“كان موضوع لوحتي دائما مزيجا من الأفكار والعواطف، ولأن عواطفي وانفعالاتي أكبر بكثير من قدرتي على مداراتها وتدبيرها احتجت دائما إلى أداة تنفيذ سريعة جعلت لوحتي أحيانا كثيرة وكأنها لا تزال في طور الاكتمال لم تخرج عن التخطيط الأولي” يقول في تفسير لجوئه إلى الرسم المباشر، أمام الجمهور في محاولة منه لكسر الحاجز ما بين الرسم الخالص الذي يؤمن به وبين الرغبة في التعبير الحيوي الذي يثق أنه نوع من الوحي.

ولأنه لا ينتمي إلى سلالة رسامي اللوحة الواحدة فقد كانت قدرته على التحول داخل العالم الذي خلقه لا تفاجئه، بل كان ينتظرها ويسعى إليها. إنه يمسك بلحظة الإلهام بموهبة شاعر لا يثق بما على لسانه من كلمات.

ميزة الناصر أنه جاهز للرسم في أي لحظة. لا لشيء إلا لأنه يجد إلهاما في كل ما يراه في الطبيعة.

ذلك الإلهام ليس متاحا لجميع الرسامين. لطالما نظرت في عينيه الدامعتين دائما وكنت أدرك أنه يهرب من الإلهام البصري الذي يحاصره في كل لحظة عيش. هذا كائن يود لو أنه يرسم في كل لحظة. إنه يرى ما يحثه على الرسم ويقوي عزيمته. ما من شيء من الرسم يمر خطأً بالنسبة ليوسف الناصر.

9