حب الحياة اختيار

المرأة الجميلة ليست تلك التي تعلو ملامحها المساحيق، وتخفي وجهها تحت كومة من السوائل اللزجة بحجة التجمل، ولكنها تلك التي تختار أن تعيش الحياة بحب وجمال وتفهم احتياجات نفسها ومن حولها، وتسعد ذاتها وتمنح غيرها السعادة، والتي تختار ألا تتوقف سعادتها على غيرها، وألا تكتسب نورها وبهاءها من أحد بل تشع هي نورا وبهاءا، تلقي بأشعتها على الآخرين فتعطيهم دفئا وضياء كالشمس، فكما أن الحياة مليئة بالخيارات التي تضعنا أحيانا في مواقف حاسمة لا يجوز معها الوقوف في منطقة الحياد، ومن أهم هذه الخيارات هو حب الحياة ذاتها، أي أن تحرر سعادتك من أسر الأشخاص والأشياء وتمنحها جناحين لتطير بعيدا، تحلق في سماوات أكثر رحابة.
كنت أتحدث إلى كاتبة وازنة في المجتمع المحلي المصري والعالم العربي عن معنى السعادة وكيف يصنف الإنسان سعيدا أو تعيسا وماهية حب الحياة بعد وصف المرأة المصرية بأنها الأكثر نكدا على مستوى العالم، وأنها بشكل عام كائن حزين، فضحكت ساخرة وقالت لي، المرأة كائن جميل رقيق لكنها كالزهرة تحتاج إلى من يسقيها لتزهر، يهتم بها لتتفتح أوراقها وتفوح رائحتها الجميلة العطرة.
فأنا مثلا أحب الخياطة حتى وإن خانتني عيناي في حرفية لضم الخيط وأخطأت في التعرف على ثقب الإبرة، أهوى التفصيل رغم ارتعاشة يديّ دائما عند الإمساك بالمقص، أعشق الرسم رغم كون لوحاتي لا تكتمل نهائيا وألوانها دائما باهتة مهما حاولت.
تسعدني أشياء ربما يراها غيري بسيطة، تافهة أو تستهلك الوقت والجهد وتستنزفنا بلا فائدة، لكنها تسبب لي سعادة لا توصف ولا حدّ لها، تشعرني بذاتي فعلا، ومن هذه التفاصيل البسيطة أستمد قدرتي على مواصلة الحياة.
كانت أمي متعلمة تعليما بسيطا، لكنها تقرأ كثيرا، تكتب الشعر ليستقر في أدراج مغلقة لا يراه غيرها، لكنها أبدا لم تكف عن الكتابة، تقرأ الروايات لتصنع عالما خياليا غير عالمها التعيس في معية زوج قاس وأهل لا يقدّرون مشاعرها، تعشق الفنون والموسيقى والآداب رغم عمامة والدها الذي كان شيخا أزهريا متعصبا يحرّم عليها وعلى أسرتها كاملة كل شيء له علاقة بالفن والأدب والرسم والموسيقى، يراها توافه الأمور التي لا طائل منها.
تلقت أمي الصفعة الأولى على وجهها حين كشفت النقاب عن رغبتها في ممارسة رقص الباليه، وتلقت الصفعة الثانية حين زوجها والدها بتوكيل دون علمها، وتوالت الصفعات من والدها، وبعدها زوجها، ثم لم تهدأ نفسها من تتابع صفعات الزمن.
رغم هذا كله اختارت أمي حب الحياة ولم تربط سعادتها بشخص حتى لا تتعثر في الحياة دونه، وكذلك لم تربط سعادتها بشيء حتى لا يكدر صفو حياتها فقدانه، كانت تعيش من أجل أن تسعد بتفاصيل بسيطة وتسعدنا معها، حتى أننا تعلمنا منها حب الحياة بكل بهائها وجمالها، تجليات اللحظات السعيدة دون قيود مجتمعية طالما أننا لا نخطئ ولا نرتكب حماقات أو ذنوبا لا تغتفر.
ولجت كل دروب الفن والثقافة بدعم من أمي الجميلة الرائعة، وحين وقفت في وسط الدار أنشد أبياتا من شعر الغزل نهرني أبي بشدة، طالبا مني حفظ قصائد لأبي تمام والمتنبي والجاحظ وأبي العتاهية وغيرهم، وحين كتبت أبياتا بريئة عن الحب كانت هدية أبي “علقة ساخنة” بينما أحضرت لي أمي أقلاما ودفاتر بيضاء وقالت لي “لوّني الصفحات بحروفك الجميلة، اكتبي لنفسك لتسعديها بإخراج مكنونها الشعري الرائع، لا تدعي الكلمات تختنق في صدرك، ولا تحبسي المعاني، أطلقي العنان لإبداعك، اكتبي شعرا ونثرا وقصة، كوني بطلة رواية وكاتبتها، لا تبكي أبدا حبيبتي، وارفعي رأسك دائما فالمدارس والتعليم الإلزامي لا يخلقان مبدعين، لكن الإبداع هبة من الله تعالى، نعمة يخص بها بعض عباده”.
ملأت قلبي كلمات أمي فكتبت وفرحت بتدوين اسمي في نهاية كتاباتي، طيّرني الحلم في عوالم بألوان الطيف قد ملأتني سعادة وجمالا وعلمتني سرور الروح.
كنت أتساءل دائما، ماذا لو لم تكن أمي بهذه القوة، لو كانت امرأة هشة تشبه لوح الزجاج سهل الكسر؟
كيف لامرأة مثلها تضحك طوال الوقت حتى نظنها أنثى بلا هموم، وأيقنت أن إجابة السؤال في قلب أمي الجميل الذي قرر أن يطرد الحزن بعيدا وينثر الحب بين ثنايا الزمن، ليحصد جمالا يسكن القلب قبل الملامح.