أسامة بعلبكي رسام الواقع الملتفت إلى ماضيه

واقعيته سببت الحيرة للبعض من متابعي تجربته الفنية فأحالوها إلى ما تنطوي عليه من أفكار فصار النظر إلى لوحاته يعكس توجها فكريا معاصرا، ضمن له الانتساب إلى جيل ما بعد الحداثة، بالرغم من أن أسلوبه في الرسم لا يزال متمسكا بشروط الصنعة التقليدية.
أسامة بعلبكي وهو ابن عائلة منغمسة في الفن بكل أنواعه اختار أن يكون واقعيا في أسلوبه في التعامل مع المرئيات رسما. خيار كان بالنسبة له بمثابة تحد لما هو سائد في المحترف اللبناني المعاصر من أساليب، تستند في الجزء الأكبر منها على ما هو مفاجئ وصادم وانتهاكي.
ولأن واقعيته رفيعة المستوى فقد نجت رسومه من الوصف الميسر.
هناك نوع من التلغيز مصدره غموض القصد الذي تشف عنه المشاهد المرسومة بإتقان عال، كما لو أن الرسام كان قد تعمق في دراسة تأثيرها النفسي قبل أن يرسمها، الأمر الذي يحيلنا إلى نوع من التأمل الذي ينسج علاقة متوترة بين الذكريات الشخصية وما يظهر في الصور الفوتوغرافية.
تلك العلاقة المتشنجة التي ينتج منها جمال خاص هي ما أوحت للبعض أن يزج بتجربة بعلبكي في تيار الفن المفاهيمي. تأويل يسير من أجل أن تتقدم الفكرة على الرسم. وهو ما لا أميل إليه. فبعلبكي الذي يلذ له أحيانا أن يقدم رسومه بنصوص شعرية قصيرة لا يقوم بذلك من أجل أن يوضح ما لم يقله عمله بشكل مباشر كما يفعل المفاهيميون، بل إنه يفعل ذلك توخيا لقول ما يريد قوله بلغتين مختلفتين يجيدهما.
هو رسام واقعي، غير أنه لا يفرط في واقعيته بحيث يبدو كما لو أنه يتخلى عنها وهو في المقابل رسام تعبيري لا يشحن رسومه بقيم جمالية أدبية تجعلها مجرد رسائل تحث على فهم المعنى.
بعلبكي الذي تعرفت عليه من خلال صالح بركات، صاحب قاعتي “أجيال وصالح بركات” هو بالدرجة الأساس رسام طبيعة وليس رسول أفكار.
إنه يسعى بقوة لكي يستكمل ما بدأه الآباء المؤسسون للرسم في لبنان. إلهامه في ذلك يكمن في الجمال الذي تنطوي عليه فكرة أن يكون المرء لبنانيا.
كان بركات محقا في رهانه على بعلبكي. الاثنان يحلمان بالشيء نفسه. لبنان باعتباره خزانة لجمال متجدد.
السابح ضد التيار
ولد بعلبكي في قرية العديسة جنوب لبنان عام 1978. والده عبدالحميد بعلبكي شاعر ورسام لبناني معروف. درس الرسم في معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية. وشارك في معارض جماعية عديدة داخل لبنان، كان أهمها ذلك الذي احتضنه متحف سرسق. كانت له مشاركات فنية خارج لبنان في أبوظبي ولندن ودبي وميامي وميونخ ونيويورك وواشنطن.
“لوحات باللون الأسود” كان عنوان معرضه الشخصي الأول الذي أقامه في دار الندوة ببيروت عام 2004. بعدها أقام معرضه “مشاهد العزلة” عام 2007. ومعارض أخرى عديدة.
هذه الأيام يقيم في قاعة صالح بركات ببيروت معرضه “ضد التيار”. ولعنوان المعرض الأخير دلالاته المهمة سواء على مستوى تجربة الفنان الأسلوبية أو على مستوى علاقة الفنان بالواقع.
صار بعلبكي اليوم أكثر انكشافا على مصادره الفنية الملهمة. لذلك لم يجد مانعا في أن يكون واقعيا مثل فنسنت فان غوخ، بالرغم من أن الأخير لا يمكن أن يُحسب على المدرسة الواقعية.
كما أن الفنان اللبناني لا يجد حرجا في الانتقال إلى الواقعية النقدية ليكمل مسيرته التي صنع من خلالها علاقة بين الطبيعة والمجتمع.
هذا رسام لا يستهين بوظيفته. لذلك فإنه يدرس خطواته جيدا. لم يمنعه إخلاصه المطلق للرسم من التفكير في ما يمكن أن يؤديه الرسم من وظيفة على مستوى التأثير الثقافي والاجتماعي.
لم يكتف بعلبكي بالحلول الجمالية التي وجدها جاهزة بسبب مهارته المدرسية، بل استطاع من خلالها أن يتجاوز عتبة متعته رساما لكي يستعيد من خلال الرسم تاريخا من الأخطاء اللبنانية التي أدت إلى صناعة واقع، هو في حقيقته نوع من الخطيئة.
يجاهر بعلبكي بواقعيته التي يحارب من خلالها الواقع. إنه يحارب على جبهات عديدة انطلاقا من التفكير في سؤال “ما معنى أن تكون واقعيا في بلد مثل لبنان؟”.
ينتمي الفنان إلى الجيل الذي صار عليه أن يفسر أسباب الحرب الأهلية التي شهدها لبنان بين عامي 1975 و1990 من غير أن يملك الحق في المساءلة. وهو حق يمكن أن يجاهر به الفن.
“مرافعات ضوئية” هو عنوان المعرض الذي أقامه بعلبكي عام 2017 في قاعة أجيال ببيروت. بسبب ذلك المعرض استحق أن يُلقب برسام المكان اللبناني فهو يستعير مفرداته الملهمة من تفاصيل المكان الذي يستفز ذاكرته ويحيي فيها صورا مستعادة تتحرك بقوة أطيافها. هناك ما يحدث داخل المشهد الذي يصوره بعد أن يراه بعين غريبة. لقد صور يومها غيمة تتنقل بين الأشجار وتنحشر بين البيوت لتنتقل بعدها إلى سماء حرة. هناك ما يستحق أن يُرى من بعد حتى لو كان عشبة تنمو على جدار.
من الشعر وإليه
يسعى أسامة إلى التقاط روح المكان وليس جمالياته، لذلك فإن رسومه، حتى تلك التي تمثل مشاهد طبيعية لا يمكن اعتبارها مدائح للمكان. ما يسميه “الإيقاع أو الصوت المكبوت” في الشعر يعبر عنه في الرسم من خلال شحوب يحيل المشاهد إلى فلسفة الشك التي يستند إليها الرسام في إدارة عناصر مشاهده. ذلك لأن واقعيته في الجزء الحيوي منها إنما هي مزيج من الحقيقي والوهمي “الزائف”.
لذلك فإن الرسام غالبا ما يلجأ إلى الماضي باعتباره حسب تعبيره “الطبقة التي تحوي المياه الجوفية للحاضر”. ولأنه لا يرسم كمَن يتذكر فإنه يستدرج ذلك الماضي من خلال إشاراته التي لا تزال تعمل في الحاضر. بمعنى أن الإشارة الحية هي الوسيلة التي يستعملها الرسام في تأكيد حدسه بالماضي. سلوك منضبط يقربه كثيرا من الرسامين الكلاسيكيين بالرغم من أنه لا يخفي تودده إلى كلود مونيه حين يتعلق الأمر بالضوء وتحولاته.
نشأ بعلبكي في بيئة مغمورة بالشعر والرسم والموسيقى. لذلك تحضر الموسيقى والشعر في عالمه، لا من خلال الإيحاء غير المباشر بل من خلال حساسية تستمد قوتها من غموض الشعر وإيقاع الموسيقى. وإذا ما كان الرسام قد أكد مرارا أنه يستمد ثقته بالفن من خلال ثقته بسلوك عدمي، كان عنوانا لعلاقة الشعراء الذين أحبهم بالحياة فإن إشاراته إلى أولئك الشعراء إنما تنطوي على الكثير من الرغبة في الكشف عن أسباب قوتهم الخفية. لقد رسم العراقي بدر شاكر السياب والفرنسي شارل بودلير والروسي فلاديمير ماياكوفسكي لا من أجل أن يستولي على صورهم الشخصية المرسومة بأسلوبه الشخصي، بل من أجل أن يهتدي إلى فكرة العدم التي تقف وراء طريقتهم في النظر إلى العالم.
قد تعامل بعلبكي مع الشعراء الذين أحبهم باعتبارهم مفردات، مثلهم في ذلك مثل شوارع بيروت بأعمدة وأسلاك الكهرباء وغابات الأرز بأشجارها والجبال التي يلذ له أن يرسمها بطريقة سيزانية في إحالة منه إلى الرسام الفرنسي بول سيزان الذي يحبه.
لذلك يمكن القول إنه في تعامله مع أولئك الشعراء لم يكن يرغب في إظهار أيقونيتهم بقدر ما حاول أن يجرهم إلى عالمه الذي يمكن النظر إليه بطريقتين. الأولى مريحة في انفتاحها على مشهد عادي يُرى من خلال جماليات مدهشة والثانية صعبة من جهة ما تقود إليه من شعور بالغموض الذي ينطوي عليه العالم.