تجربة غنائية شبابية تستلهم الشرق والغرب بصياغات جديدة

صنعت فرقة "بلاك تيما" المصرية نجاحا ملموسا انعكس على الحضور الجماهيري الكثيف، بعد أن جعلت عنوانها الرئيسي "التمرّد" على الكلمات والألحان والمزج المميّز بين التراث النوبي والموسيقى الغربية.
الجمعة 2018/07/20
موسيقى شبابية ببصمة خاصة

القاهرة - أحيت فرقة “بلاك تيما” حفلا غنائيا في أولى حفلات موسم الصيف على مسرح دار الأوبرا المصرية، مساء الخميس، وسط حضور جماهيري كبير، على خلاف المعتاد لحفلات الأوبرا التي تخاطب غالبا شريحة نخبوية في الفن والموسيقى، وكانت تبتعد عن الجمهور العريض من الشباب. واعتادت الفرقة الغنائية المزج بين التراث النوبي الشهير في جنوب مصر والموسيقى الغربية العصرية، ذات الإيقاعات السريعة.

موسيقى جديدة

لفتت الفرقة انتباه قطاع كبير من الشباب، بعد أن تحولت حفلتها على مسرح الأوبرا إلى احتفال بها، وكأنها تقدم لأول مرة حفلة، وكأنه جرى اكتشافها من جديد.

وقدمت الفرقة مجموعة من أشهر أغانيها على مسرح الأوبرا، منها “إيه عيني” و”بحار وكل مرة” لتلهب حماس الجماهير المحبة لهذا اللون المختلف.

ورغم تعدد الفرق الغنائية المستقلة، إلا أن هذه الفرقة تحتفظ بقاعدة جماهيرية كبيرة ومتنوعة، جمعت بين فئات المجتمع بشرائحه العمرية المتعددة، ما يجعل حفلاتها أكثر اختلافا عن غيرها من الفرق الشابة التي تخاطب شريحة عمرية معيّنة.

ولم يضع الثلاثي المكون للفرقة أحمد بحر وأمير صلاح الدين ومحمد عبده، التراث النوبي وحده محركا لتجربتهم الغنائية التي انطلقوا منها في مطلع الألفية الجديدة، برغم كونهم من أبناء منطقة النوبة في جنوب مصر والتي ينحدر منها العديد من المطربين، وأبرزهم الفنان محمد منير.

وجاء تحدي الفرقة وتمرّدها على تقديم تجربة غنائية تحافظ على الهوية الشرقية عبر تقديم اللون النوبي ومزجه بموسيقى غربية مثل الجاز والهيب هوب والبلوز.

الفرقة تقدم مبادرة جديدة على مستوى الموسيقى واختيار الكلمات التي تفتش عن هوية الإنسان المصري

وتظل هذه الفرقة محتفظة بمكانة خاصة على الساحة الغنائية لإصرارها على إضفاء الطابع الشرقي على أعمالها وتجنب الاعتماد الكامل على الموسيقى الغربية.

وعبّر عدم الاستسلام لتجربة الاستعانة بالتراث النوبي وحده، عن ذكاء أعضاء الفرقة الذين أرادوا أن يصنعوا نجاحهم وحدهم وتجنّب أن يكونوا نسخة باهتة للكثيرين ممن حاولوا تقليد الفنان النوبي الراحل أحمد منيب، أحد أعمدة هذا التراث. ولم ينشغلوا بالدخول في تنافس مع محمد منير الذي واصل رحلة عطائه بتجديد بعض الأعمال وصناعة أغنيات ذات دلالات سياسية واجتماعية عميقة.

وقرر أعضاء هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب مبادرة جديدة على مستوى الموسيقى واختيار الكلمات التي تفتش عن هوية الإنسان المصري وتهتم بمشاكله. وازداد نجاح التجربة بمشاركة أعضاء الفرقة الثلاثة في الكتابة والتلحين، حتى بدت حالتهم الغنائية التحاما مع مزاج المواطن البسيط، على مستوى العودة إلى الغناء الشعبي القديم الذي بات الكثير من المستمتعين يجدون فيه ضالتهم.

وقدمت “بلاك تيما” في أغنية “أخبار أهرام جمهورية” التي تتحدث عن جيل من الذين عاصروا هذه الصحف وعدد من البرامج القديمة، واستعانوا بمقاطع موسيقية لتترات برامج قديمة شهيرة، أبرزها “تاكسي السهرة” الذي كان علامة مميزة في التلفزيون المصري منذ ثلاثين عاما.

وتسير الرومانسية لدى “بلاك تيما” على نهج غير تقليدي ومتكرر، ولا تعتمد على شكل ثابت وأحيانا يصل إلى حد التناقض. ومنذ 8 سنوات أصدرت هذه الفرقة أغنيتها الشهيرة “إيه يعني” وحققت رواجا كبيرا بين الشباب لسخريتها من علاقة “الرجل بالمرأة”، إلا أن الألبوم نفسه تضمن أغنية “بحار” وتميزت بالإيقاع الرومانسي الكلاسيكي المحمل بملامح من الموسيقى النوبية.

ولعل أغنية “بحار” و”إيه يعني” من المحطات الهامة في مشوار أعضاء الفرقة الممتد على مدار 14 عاما، واستمر نجاحهم بجوار أغاني الألبوم الأخرى حتى عام 2015  مع صدور ألبومهم الثاني، والذي حمل عنوان “غاوي بني آدمين” ليحققوا به نجاحا جديدا مكنهم من التقدم إلى الصفوف الأولى للفرق الشبابية.

رغم تعدد الفرق المستقلة، إلا أن هذه الفرقة تحتفظ بقاعدة جماهيرية كبيرة ومتنوعة جمعت بين مختلف فئات المجتمع

وبخلاف مجموعة الأغاني الرومانسية التي تضمنها الألبوم الثاني مثل “ست الحسن” و”على شط النيل” وغيرهما من الأغنيات التي حملت موضوعات اجتماعية، وضعت فرقة “بلاك تيما” بصمتها في التراث النوبي، وقدمت أغنية “أوسو أوسو” بعد 11 عاما من ظهورها الفني.

الوصول إلى البسطاء

تعتمد الفرقة في حفلاتها على عناصر موسيقية محددة، مثل الباص غيثار والغيثار والترومبيت والمزهر “آلة تشبه الرّق”، وبعض الطبول، وتقدم بها موسيقي نقية تشبه تلك التي تصدر في أعمالها مدمجة بمراحل الإعداد الصوتي الجيد التي تتخطى المئة أغنية.

وقامت “بلاك تيما” بتصوير عدد من الأغنيات بشكل جذاب وبسيط ومختلف، ويحمل أحيانا طابع السخرية كما في “إيه يعني” أو يغلف بشكل كرتوني كما بدا في أغنية “في بلاد الأي حاجة”. ورصدت تلك الأغنية الحالة السياسية للمجتمع المصري خلال العام الذي حكمت فيه جماعة الإخوان المسلمين مصر من يونيو 2012 إلى يونيو 2013.

ويُحسب لهذه الفرقة قدرتها على الوصول إلى البسطاء وتقديمها العديد من الأغاني التي تنتقد الحكومة وتبرز أزمتها مع المواطنين، وأشهرها أغنية “زحمة” التي صدرت في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وسخرت من الحكومة والبرلمان آنذاك.

والمختلف في مشوار “بلاك تيما”، أن الفرقة أمعنت في انتقاد الحكومات التي تعاقبت في مصر، مع ذلك لم تكن من الفرق الغنائية التي تاجرت بموقفها السياسي، واكتفى أعضاؤها بوجود أعمالهم يتغنى بها الشباب دون أن يظهروا في الصورة لاكتساب المزيد من الشهرة.

ورغم المسار السياسي الذي ابتعدت فيه الفرقة عن المشهد خلال أحداث ثورة 25 يناير 2011 في مصر، إلا أنها لم تسلم من التعرض إلى انتقادات وصلت حد اتهامها بالتخلي عن المواطن بسبب مشاركتها في بعض الأحداث الرسمية للدولة، مثل مؤتمر الشباب في مدينة شرم الشيخ على البحر الأحمر والذي عقد برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، والتعاون مع الملحن عمرو مصطفى في أغنية “يلا” التي تعبر عن قوة الجيش المصري. ولفرقة “بلاك تيما” بصمة أخرى في مشوارها الغنائي تختلف عن تجربة أي فرقة أو مطرب آخر، تكمن في تقديم أغنية “حر” للصم والبكم، وقاموا بتصويرها بلغة الإشارة، وهو العمل الأول الذي خاطب هذه الشريحة الغائبة عن الكثير من صناع الأغنية.

وتظل هذه الفرقة صاحب تجربة فريدة لأصحاب الفرق الغنائية وربما تكون خطوة أعضائها المقبلة بالتعاقد مع شركة إنتاج جديدة في تجربة تضع علامة بارزة في مشوارهم، وسيكون الألبوم الثالث لهم الذي يتضمن خمسة أغاني “ميني ألبوم” بمثابة عودة للفرقة لمزيد من الانتشار بعد غياب ثلاثة أعوام من صدور الألبوم الثاني لها عام 2015.

15