متحف البريد في مصر، طوابع صغيرة تروي تاريخا طويلا

فضاء غير مبرمج بالخارطة السياحية زواره قليلون ويحتفظ بسجل كامل معروض للجمهور عن كل ما يتعلق بالطوابع في توثيق حي للتاريخ.
الاثنين 2018/07/16
هل تتحول الطوابع النادرة إلى قطعة ديكور
 

يعتبر متحف البريد بوسط القاهرة الإطار المرجعي الأول لهواية جمع الطوابع في مصر. المتحف الذي لم يوضع على الخارطة السياحية ولا يعرف بوجوده إلا الهواة، يضم مئات الآلاف من الطوابع التي يتجاوز تاريخ إصدار بعضها الـ150 عاما، بجانب تجسيد تطور التدوين والكتابة وصناعة البريد منذ الفراعنة وحتى العصر الحديث

القاهرة- يحبس هواة جمع الطوابع أنفاسهم ترقبا لخطط نقل المزيد من مقتنيات متحف البريد المصري الكائن في ميدان العتبة بوسط القاهرة، إلى مقر الهيئة القومية بالقرية الذكية التي تبعد نحو 30 كليومترًا (غرب القاهرة). بالنسبة لهؤلاء المبنى الذي تم تشييده على شاكلة قصور الأمراء إطار مرجعي رخيص الثمن لاستكشاف النواقص في مقتنياتهم ومحاولة استكمالها.

يتسرب القلق منذ نقلت الهيئة القومية للبريد بمصر أقدم مجموعة طوابع مكوّنة من سبع قطع يعود تاريخ طباعتها لعام 1866 إلى مقرها الثاني في القرية الذكية، ولم يتم التعامل معها كأثر أو بهدف جذب الزائرين، لكن مثل قطعة ديكور أو صورة لتزيين المبنى ومنحه بعدا تاريخيا يميزه عن مقار فروع شركات التكنولوجيا الملاصقة.

ملك بعين الموناليزا

في قاعة ملكية حافظت على كل مكوناتها دون تغيير، يسافر الزائر في رحلة إلى أجواء الماضي بين الطوابع النادرة صغيرة الحجم، وصور حكام مصر من أسرة محمد علي التي تزين الجدران، ومن بينها لوحة ضخمة للملك فاروق الأول، صنعت خصيصا لتحاكي “الموناليزا” التي رسمها الإيطالي ليوناردو دافنشي، ليشعر الرائي أن عيني آخر ملوك مصر تنظران إليه من كل الزوايا.

الطوابع ليست فقط ورقة صغيرة الحجم تلتصق بالخطابات والمراسلات الحكومية، ففي عرف المؤرخين هي توثيق حي للتاريخ، عبره تعرف تاريخ الأمم ورموزها وتطوراتها واهتماماتها، وفي نظر جامعيها هواية مربحة واستثمار الماضي لصالح المستقبل، وعند المواطن العادي مطلب إجباري على كل ورقة يحتاجها من أي جهات حكومية.

طوابع تاريخية نادرة
طوابع تاريخية نادرة

ظلت غرفة الطوابع بالمتحف كما هي دون تغيير منذ إعادة فاروق الأول افتتاح المتحف الذي أنشأه الملك فؤاد الأول عام 1934، لتظل قطع العرض الخشبية المصنوعة من الزان لم تطلها يد، رغم لافتة رخامية ضخمة موضوعة بالمدخل، تشير إلى إعادة تطويره في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك في تسعينات القرن الماضي.

تظل غرفة الطوابع الأكثر جذبا للزائرين في المتحف المتكون من عشرة أجزاء، بينها القسم التاريخي الذي يرصد تطور الكتابة والمراسلة منذ الفراعنة، وأقسام أخرى للملابس والمؤتمرات وأدوات البريد ونماذج المباني البريدية والخرائط والإحصاء والنقل، والبريد الجوي الذي يضم نماذج لبعض الطائرات القديمة وأول خطاب بالبريد الجوي أرسل من القاهرة إلى كراتشي قبل انفصال باكستان عن الهند.

تتصارع الطوابع على جنبات المتحف بحثا عن الجمهور الذي يأتي غالبا للحصول على نظرة متعمقة ويعرف الناقص منها ويسعى لاستكماله من الهواة بالخارج، بعضهم يتحدث دائما عن سعيه لإهداء جزء من مجموعته، لكنه يتراجع، والبعض الآخر يعرض بيع مجموعات أجنبية نادرة، لكن الأمر يقابل بالرفض فلا موازنة متاحة لذلك الغرض.

لا يتجاوز المقابل النقدي الذي يدفعه زائر المتحف، مصريا أم أجنبيا، عن جنيهين اثنين فقط (11 سنتا من الدولار الأميركي)، ينخفض المبلغ إذا جاء ضمن مجموعة من الأفراد إلى نصف الجنيه، ما يجعل المتحف معتمدا بشكل كامل على المخصصات الحكومية للإنفاق على التطوير دون عوائد مالية ذاتية تكفي لشراء مجموعات أخرى من الطوابع النادرة التي يعرضها الهواة.

تستقبل قاعة البريد الزائرين بصورة نادرة لأول طابع تم إصداره في العالم كله عام 1840 ويحمل صورة الملكة فيكتوريا، في مقابله صورة نادرة للسير رولاند هيل، مدير مصلحة البريد البريطانية، الذي اقترح على البرلمان إصدار الطابع لتحسين خدمة البريد، وهي الشرارة التي انطلقت منها صناعة طباعة البريد التي لا تزال باقية حتى الآن.

ويقول محمد بكري، مدير متحف البريد، إنه يجذب أنظار هواة الطوابع، مبديا استغرابه من قدوم موظف بهيئة البريد بريطانيا قبل شهور خصيصا لزيارة المتحف والتعرف على مقتنياته قبل أن يزور متحف بلاده، بجانب الهواة الذين تعتبر أعدادهم كبيرة، ويملكون الكثير من المجموعات، منها أقدم مجموعة مصرية ويتم تداولها بسعر لا يتجاوز 278 دولارا.

الطوابع التي تم فيها تشويه الملك فاروق هي الأكثر طلبا من قبل الهواة

وظلت الطوابع المصرية رسمية حتى عام 1926 لتبدأ لأول مرة إصدار طوابع مناسبات لتخليد عيد ميلاد الملك فاروق، وصدرت ثلاثة طوابع مختلفة الألوان والأسعار وطبعت هيئة البريد من إحداها 200 ألف نسخة، بثمن بلغ 20 مليما (الجنيه المصري يساوي ألف مليم).

تعتبر بطاقتا الكشافة الصادرتان عام 1956، أغلى إصدارات البريد المصري، ويتراوح ثمنهما حاليا بين من 834 و1111 دولارا، وترجع ندرتهما إلى اقتران الحصول عليهما بشراء طوابع أخرى بقيمة 13 جنيها (الدولار حينها كان بنحو 25 قرشا)، وكان مبلغا كبيرا في حينه، بجانب إعدام المتبقي منها ليبلغ كل ما تم تداوله منها ألف طابع فقط.

تأتي بعدها في القائمة “مجموعة المـلك فؤاد العربية” التي صدرت عام 1923، وعددها 12 طابعا وتباع كاملة بنحو 1666 دولارا ثم “مجموعة فؤاد الفرنسية” التي صدرت بعدها في 24 طابعا باللغة الفرنسية بمناسبة احتفال الملك فؤاد بعيد ميلاده الـ58 وكان سعرها 100 مليم، وتباع بنحو 1655 دولارا.

يضيف بكري لـ”العرب”، أن امتلاء المتحف بطوابع أسرة محمد علي يرجع إلى الدور الكبير الذي لعبته في تمصير تلك الصناعة ونقلها، فأول طابع ينسب رسميا لعهد الخديوي إسماعيل.

في البداية كانت رسائل البريد تُرسل بلا طوابع، فأسس موتسي بك الإيطالي بأمر خديوي، طوابع البريد لأول مرة عام 1866، وتم إجبار نظارة المالية على استخدامها بكل تعاملاتها.

صنعت أول مجموعة من طوابع البريد المصري بجنوة في جنوب إيطاليا عام 1866 وقتما كانت مصر تحت الخلافة العثمانية من فئة 10، 20 بارة (البارة كانت عملة العثمانيين والجنيه الواحد كان يساوي 4 آلاف بارة).

جاءت فكٍرة تمصير الطوابع من خلال طبعها داخل البلاد، ففي عام 1867، طبعت الطبعة الثانية في مطبعة “بناسون” الحجرية بمدينة الإسكندرية، ثم صدرت الطبعة الثالثة في سنة 1872 بالمطبعة الأميرية ببولاق أبوالعلا بوسط القاهرة.

فنانون لا ينساهم التاريخ
فنانون لا ينساهم التاريخ

مع تولي الضباط الأحرار الحكم بعد ثورة يوليو 1952، حافظوا على طوابع الملك فاروق في أول عام بعد عزله، لعدم وجود طوابع عاملة وعدم الاتفاق على نوع وشكل الطابع لانشغال رجال الثورة بضبط أمور الحكم، لكنهم عمدوا إلى تشويه صورته بوضع ثلاثة خطوط باللون الأسود على وجهه في جميع الطوابع الذي تحمل صورته، إيذانا بانتهاء الملكية وبداية الجمهورية.

ويشير بكري إلى أن الطوابع التي تم فيها تشويه الملك فاروق هي الأكثر طلبا، ليس لاعتبارات سياسية، لوجود عُرف في صناعة الطوابع يعلمه الهواة يقضي بأن الطوابع “المعيوبة” (التي فيها عيب) أكثر تميّزا وأعلى سعرا، وكلما زاد العيب في صناعة الطابع كلما كان “كنزا” لصاحبه.

حرص قادة ثورة يوليو في بداياتها، على إصدار طوابع تمثل قطاعات الشعب المصري انطلاقا من مبادئها الاشتراكية.

وكان أول طابع شخصي للفلاح المصري حاملا الفأس رافعا رأسه وخلفه النخل والمنازل الريفية، ثم إصدار طابع آخر لجندي مصري رافعا سلاحه، وثالث لامرأة ريفية حاملة فرع من أفرع نبات القطن المصري وعلامات الأنوار تنبع من زهرته.

قصص وتصميمات

حملت الطوابع في عهد ثورة يوليو قصصا، فالتصميمات حينها كانت صورا لأشخاص حقيقيين يتم اختيارهم وتصويرهم وعرض صورهم على مجلس الوزراء، ثم رفعها للرئيس محمد نجيب حينها وكان يوافق عليها باستمرار باستثناء صورة الجندي المصري الذي رفضه وتم إعادة اختيار الجنود لتصويرهم أكثر من مرة، إلى أن جاء على جندي يدعي سيد سليمان، وقال الرئيس حينها، “في عينيه بريق وعزم وقوة وتأمل ويستحق التخليد في طابع″.

من المفارقات أن آخر طابع تذكاري صدر في عهد الملكية كان للذكرى المئوية لوفاة محمد علي باشا عام 1949، وأول طابع تذكاري شخصي في عهد الجمهورية الذكرى الـ75 للثورة العرابية، ويصور المشهد الشهير لوقوف أحمد عرابي في وجه الخديوي توفيق طالبا إصلاحات أمام قصر عابدين عام 1882. وانتقلت المعركة بين الملكية والجمهورية إلى طوابع البريد.

جناح بلا زوار
جناح بلا زوار

لا يزال المتحف يضم “زنكات” الطباعة النحاسية التي صنعت منها جميع الطوابع المصرية بجانب أختام طباعية منفردة بحالتها الأصلية، وصورا لأكواد البريد بجميع المحافظات على مدار تطورها وحتى الآن ليكون الوحيد في العالم الذي يحتفظ بسجل كامل معروض للجمهور عن كل ما يتعلق بالطوابع.

لم تكتف أسرة محمد علي في مصر بحفظ الطوابع المصرية، بل جمعوا تراثا كبيرا من أندر طوابع العالم في ماكينات يدوية خشبية شبيهة بألبومات الصور الفوتوغرافية، لتجد بجانب الطوابع المصرية مجموعات لدول لم تعد موجودة على الخريطة وأخرى تغيرت أسماؤها منذ عقود.

في المتحف لن تجد ذكرا للمغرب باسمه الحالي، رغم وجود طوابعه التاريخية في صفحتين كاملتين بنحو 50 طابعا، لا يزال يذكرها باسم “مراكش تحت الانتداب الإسباني” والذي استمر في الفترة من (1912 – 1956)، والحال مع تشيكوسلوفاكيا التي أصبحت دولتين، لكنهما دولة واحدة بطوابع البريد القديمة التي تحمل صورا لسياسيين وحكام تاريخيين.

يضم أيضا طوابع لإمارات ذات حكم ذاتي لم تعد موجودة على الخريطة، مثل شرق الأردن، ذلك الكيان السياسي الذي كان موجودا ضمن منطقة فلسطين تحت الانتداب حتى استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في 1946، وكذلك طوابع لماليزيا عندما كانت تسمى باسم ولايتها الأشهر سياحيا ترينغانو قبل اعتماد الاسم الجديد عام 1963.

ربما لا يعرف بعض سكان “ترينيداد وتوباغو” الدولة الصغيرة الواقعة في جنوب البحر الكاريبي، التي تناهز مساحتها 5 آلاف كيلومتر فقط، أن الطوابع القديمة التي استعملها الاستعمار الهولندي وقت احتلاله لها، محفوظة داخل صفحة بمتحف البريد، حتى قبل استقلالها أو اندماج الجزيرتين الكبيرتين لتكوّنان جمهوريتهم متعددة الأعراق.

يؤكد بكري، أن آخر سلسلة طوابع أصدرتها هيئة البريد في مصر كانت تذكارية في ذكرى وفاة مجموعة من الفنانين مثل محمود عبدالعزيز ونور الشريف، بجانب طابع خاص بمناسبة مشاركة المنتخب المصري في كأس العالم، يتضمن صورة لكأس العالم وبجواره لاعب يركل الكرة وعلم مصر ومتاح للشراء بسعر خمسة جنيهات.

تصوير: محمـد حسنين

20