الاحتفاء بالصيام الأول للأبناء.. عادات أسرية تشارف على الاندثار

الاحتفال التقليدي بالصيام الأول يوطد علاقة الابن بالعائلة، وتقاليد رمضانية اندثرت بفعل تغير نمط المعيشة في تونس.
الثلاثاء 2018/05/29
تجربة الصيام الأول لا تنسى

تونس - يتدرّب الطفل على الصيام في كنف أسرته التي تقدم له النصح والتشجيع وتجعله يتعود عليه تدريجيا بطريقة تسهل عليه نسبيا خوض أول تجربة لصيام شهر رمضان كاملا عند بلوغ السن المناسبة لذلك. ويفرح الآباء بهذه المناسبة لسعادتهم بأن الابن أو البنت قد كبر. وتترجم كل أسرة هذه الفرحة على طريقتها، فهناك أسر تكتفي بتهنئة الصائم وهناك أسر تحرص على الاحتفال بالصيام الأول للابن بحسب العادات والتقاليد التي دأب عليها الأجداد مثلما تفعل العديد من الأسر في جزيرة جربة التونسية.

ويمر شهر رمضان في العديد من جهات الجمهورية التونسية بصفة متشابهة إلا أنه في جزيرة جربة بالجنوب التونسي يأخذ طابعا مختلفا بما يميزه من عادات وتقاليد موغلة في القدم وفي المحلية إلى حد أنها تكاد لا تعرف خارج الجزيرة… وبالرغم من اندثار الكثير من العادات والتقاليد خصوصا منها المتعلقة بشهر رمضان لدى القسم الأكبر من العائلات إلا أن بعض الأسر في المناطق التي يرجع سكانها إلى أصل أمازيغي مازالت هذه العادات موجودة وخاصة في منطقتي قلالة البربرية وأجيم حيث لا تزال العائلات فيهما تُمارس بعضا من هذه العادات المتأصلة والمتوارثة عن الأجداد دون مبالاة بتطور الحياة وتغيرها.

ويحافظ أهالي هذه المناطق بجزيرة جربة في شهر الصيام على عادة الاحتفال بالصوم الأول لأبنائهم ذكورا أو إناثا، حيث تقام لهم بالمناسبة احتفالات تسبق حلول شهر رمضان بأسبوع يدعى إليها الأقارب والأصحاب إلى درجة أنها تضاهي في بعض الأحيان حفلات الزفاف إذ تقام فيها الذبائح ومآدب العشاء ويتم وضع الحنة للصائم، إضافة إلى إعداد أكلات تقليدية مثل “البسيسة” لتوزع على الحضور.

وغالبا ما يعلن هذا الاحتفال عن صيام ذلك الفتى أو الفتاة ليقضي أغلب ليالي شهر رمضان في ضيافة الأقارب بدعوة من أحدهم في كل ليلة ليتناول العشاء وتقدم له عند المغادرة هدية تكون أساسا مالية للفتى وملابس للفتاة تحتفظ بها لتنطلق منها في جمع مستلزمات الجهاز لزواجها. ولعل الاحتفال بصيام الفتاة يحمل أبعادا رمزية وثقافية في المخيال الشعبي بالمنطقة أكثر من صيام الولد لأنه بمثابة الإعلان عن بلوغها سن الزواج.

وتحمل هذه العادة وفق الحاجة محبوبة عدة معان ودلالات، فهي تحفز وتشجع الصائم وهو في عمر صغير على الصوم وتغرس فيه روح المسؤولية ليلتزم بمواصلة ذلك في السنوات المقبلة بعد أن تم الإشهار بصيامه وإعلانه لدى الأقارب ومنهم إلى المجتمع.

كما يُحيي سكان جزيرة جربة عادة “الدُولة” (بضم الدال) وهي تسمية ذات أصول أمازيغية ويقصد بها اجتماع مختلف أفراد العائلة الموسعة في سهرة عائلية يتناولون فيها وجبة الإفطار. غالبا ما تنظم هذه اللّمة بداية من الليلة الثانية من شهر رمضان لتتواصل حتى ليلة السابع والعشرين ولكل عائلة ليلتها المحددة لتنظيم هذه السهرة العائلية، ولعل في ذلك معنى التداول من كلمة الدُولة.

الاحتفال بصيام الفتاة يحمل أبعادا رمزية وثقافية في المخيال الشعبي أكثر من صيام الولد لأنه بمثابة الإعلان عن بلوغها سن الزواج

وتعد العائلة المستضيفة أكلة تقليدية أيضا تسمى “المعقود” وهو مرق حلو المذاق وداكن اللون. وأصل تسمية هذه الأكلة متأت من الزبيب إذ تتطلب كمية هامة من الزبيب لإعدادها حيث يترك الزبيب بعض الوقت في الماء ثم يُرحى ويُصفى ليطهى بعد ذلك على نار هادئة لساعات طويلة تمتد أحيانا على كامل اليوم بحسب الكمية وعدد الضيوف. ويؤكل المعقود بالعصيدة حيث يسكب فوقها كما يؤكل كالمرق بالخبز.

وتمثل ليلة الدُولة احتفالا كبيرا للعائلة لذلك فكل أسرة تستعد له مبكرا حيث تتنافس ربات البيوت قديما على الظفر بإعجاب الضيوف بأكلة المعقود بعد أن يقضين ساعات طويلة في طبخها بقطع النظر على ما رافقها من أكلات أخرى. “معيار النجاح في تلك الليلة يبقى المعقود” وفق السيدة جميلة التي حافظت وأسرتها على عادة الدُولة إلى اليوم.

وكانت الدُولة قديما ليلة يدعى لها أيضا الشبان الذين يؤدون فريضة الصوم لأول مرة فيحضر عدد كبير منهم، وتكون دعوتهم عبر ما يسمى في جزيرة جربة “بالبرّاح” أي المنادي ذلك الرجل الذي يجوب وسط القرية وعادة ما يكون وسط السوق ليعلن عن مواكب الدفن وعن الزواج وكذلك عن الدُولة ليدعو الصائم لأول مرة إلى حضور الليلة المحددة لدى العائلة المعنية بمناسبة دولتها.

اليوم، لم تعد مثل هذه العادات تُمارس بشكلها الأصلي وإن تمسكت بها بعض العائلات في عموميتها دون تفاصيل وجزئيات، فجل العائلات التي احتفظت بعادة الدُولة لم تعد تدعو لها كل الأقارب وقد تقتصر فقط على أبنائها وأصهارها وقد لا تعد أكلة المعقود التي لم تعد تستهوي الجيل الجديد والتي تستغرق الكثير من الوقت.

وبالرغم من الأبعاد الرمزية والثقافية الكثيفة للعادات الرمضانية خصوصا منها المتعلقة بتعليم الأبناء الصيام وتدريبهم عليه وفي الآن نفسه توطيد علاقاتهم بموروثهم الثقافي الذي تناقلته الأجيال إلا أن أغلب هذه التقاليد اندثرت أو في طريقها للاندثار في المجتمع التونسي، فأعداد قليلة فقط من الأسر التونسية مازالت تحرص على تطبيق هذه العادات وعلى ممارستها.

ويعود تراجع الإقبال على عادات وتقاليد رمضان خاصة منها التي تقوم على الاحتفال في وسط عائلي يجمع أفراد الأسرة الموسعة ويرتكز على تقديم أطباق تقليدية إلى تغير نمط المعيشة لدى الأسرة التونسية التي تأثرت خصوصا بعمل الزوجة وبالتخلي شيئا فشيئا عن العلاقات الوطيدة بالأسرة الموسعة وعن الاحتفالات المكلفة والتي تتطلب أطباقا تقليدية يستغرق إعدادها الكثير من الوقت ويتطلب الصبر والجهد.

21