شهامة مصرية

شهامة أحفاد الفراعنة ما زالت محط أنظار الجميع في كل مكان وعابرة أيضا لحدود المكان والزمان كبقعة الضوء على المسارح تتبع المصري أينما كان.
الاثنين 2018/05/28
مظاهر الفقر والعوز تتفنن الكاميرات في إظهارها بشكل فج وصادم

الرهان على شهامة المصريين دائما يكون صائبا، ثقافة الشهامة أو “الجدعنة” جينات وراثية لا تؤثر عليها طفرات جينية لقيطة، هذا الرهان الذي لا تخطئ خطاه مطلقا حتى مع أقسى الظروف الاقتصادية والاجتماعية وضيق الحال الذي يتعلل به الكثير، والذي تآكلت بسببه الطبقة الوسطى حتى باتت مصر الدولة العظيمة تحمل دفاتر وسجلات جهاتها الحكومية أرقاما كبيرة لمن هم تحت خط الفقر، فضلا عن النساء المعيلات، والأرامل والمطلقات وذوات الإعاقة.

ورغم رفضي لظاهرة انتشار إعلانات الاستجداء في شهر رمضان والتسول بدعوى أن بعض المستشفيات تعاني نقصا شديدا في الخدمات والإمكانيات ولولا التبرعات ما استطاعت مواصلة دورها العلاجي والوقائي، مستشهدين بنماذج حية لأطفال في فراش المرض، أو تحت أجهزة التنفس الصناعي، أو طفل صغير بنصف وجه مشوه، لا تملك فكاكا من المشهد بالتأكيد، تنساب دموع الكثيرين أمام هذه التابلوهات الاستعطافية بدون شك.

وحتى مظاهر الفقر والعوز تتفنن الكاميرات في إظهارها بشكل فج وصادم في التعامل مع مشاكل يعد إصلاحها وحلها بالأساس أمرا حكوميا بحتا، إذ أن معظمها تحتاج إلى وضع حجر أساس لبنية تحتية أساسية كمشكلة الصرف الصحي والكهرباء وإدخال الماء النظيف للقرى والنجوع، وهذه المشاهد أيضا أستشعر فيها حرجا للجميع وازدواجية بصورة فجة، حيث أن الكثير من الأسر التي ترضع أبناءها الانتماء إلى الوطن والولاء له هي نفسها التي ترفض بشدة موقف جمعيات تجعل من شهر الصوم موسما للتسول وجمع الأموال بمسميات غريبة وتحت دواع واهية.

ورغم كل هذه النقاط وأزيد عليها إلا أن شهامة أحفاد الفراعنة ما زالت محط أنظار الجميع في كل مكان وعابرة أيضا لحدود المكان والزمان كبقعة الضوء على المسارح تتبع المصري أينما كان.

فمن مشهد العاملة البسيطة التي عثرت على حقيبة بها بعض المال في ساحة مطار القاهرة وسلمتها لتصل إلى صاحبها، والشاب المصري الذي دافع عن غريب في بلاد غريبة وكان مسافرا للبلد الأوروبي عن طريق الهجرة غير الشرعية، إلا أنه لم ينتظر لحظة ليفكر فيها ما إذا كان موقفه الدفاعي عن الآخر سيجلب له المشاكل أم لا، لكنه دافع عنه بكل بسالة متناسيا موقفه القانوني الخاطئ، وللحق كافأته الدولة بإقامة قانونية تريحه عناء التوتر.

المصري في كل مكان وبصدق يعطي بكرم وحب، لا أقول هذا من باب النعرة الحنجورية بأننا أبناء حضارة سبعة آلاف عام ولا غيرها من الكلمات الرنانة وما يطنطن به البعض، ولكن مشاهد كثيرة تستوقفنا يوميا لتؤكد مقولة واحدة وهي أن “مصر بخير” بالفعل.

منذ أيام انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لمجموعة من الشباب في المرحلة الثانوية “البكالوريا”؛ فتيات رائعات وفتيان في نفس الروعة والجمال في الطريق العام يشيرون إلى السيارات بالتوقف عارضين على سائقيها ومالكيها خدمة التنظيف “غسيل السيارة” مقابل خمسة جنيهات فقط (أقل من ثلاثين سنتا)، بينما غسلها في البنزينة يصل إلى ما يزيد عن عشرة أضعاف المبلغ!

أثار المبلغ فضول المارة متسائلين بتعجب، فإذا بالشباب يعلنون أنهم يجمعون مبلغا من المال يصل إلى حوالي ألفي جنيه (حوالي 115 دولارا) مساعدة لطالب هو زميل لهم لم يتمكن من دفع تكاليف الدراسة وقد يحرم من حضور الامتحانات.

سارع مصريون لمساعدة الطالب دون سابق معرفة حتى أن بعضهم شارك ودفع بسخاء. لم يمر الموقف عابرا على مواطنين جعلت منهم هواتفهم الذكية “مواطنين صحافيين” بامتياز، وثقوا الحدث وضج الفيسبوك كمنصة إعلامية بديلة لما انفرط عقده من وسائل الإعلام بعرض مشاهد أخرى أقل أهمية وأكثر طنطنة بما يملكه أصحابها من أبواق أغلى ثمنا.

المقطع طاف الموقع الأزرق كدليل دامغ على جدعنة وشهامة الأصدقاء وعلى تفاعل الناس معه، ورغم كونه إحدى فقرات برنامج “ورطة إنسانية” التفاعلي والذي يشبه برنامج “الصدمة” الذي يطوف كافة الدول العربية إلا أن أحدا لم يسأل عن تفاصيل أكثر، فمن قرر العطاء أعطى بسخاء وكفى.

ووجهت التبرعات لتغطية تكاليف دراسية لطلاب كثر تعثر أهاليهم في استكمال مصاريفهم، فتحية متأخرة لشعب يجدد نسيجه تلقائيا ويلقي بالتالف في مكب النفايات.

21