المجرى الآخر

فكل كتاب هو لحظة مكتنزة وخصوصية ورؤيا، وليس ترصيفا للكلام وتجميعا بلا روح.
الأحد 2018/05/27
لماذا يأتي الكاتب للناس في قاعة ما؟

وأنا أتجول يوميا في أحد المعارض الجهوية للكتاب، عنت لي الكثير من الملاحظات، وبالأخص منها تلك المتعلقة بالسلوك القرائي. فمتى كانت هذه المعارض منتشرة على الأرض الواسعة، أعني في شمول الوطن، كانت الفكرة أكبر والإمساك بالرهان أقرب. أعني في شمول الوطن، طبعا في تواز خلاق بين الإبداع المكتوب والأنشطة الثقافية التي تمنح معنى للمؤلف في مخاطبته للحاجيات الفكرية والجمالية والوجدانية. وإذا حضر الكاتب إلى جانب كتابه، سيعلو السقف قليلا، لتخفيف الوطء، ومداراة الأسئلة الحارقة.

مرارا كنت أطرح السؤال وأنا أتابع بعض التوقيعات أو تقديمات لكتب وكتاب: لماذا يأتي الكاتب للناس في قاعة ما؟ وبأية كيفية يمكن للكاتب أن يتحدث عن ما يكتب؟ هل بلغة النقد، وقد يتحول في هذا داعيا لطرح أو نموذج، أم بلغة الإبداع، أعني التوسل بالمجاز، ألا يساهم هنا في توسيع الهوة أو المسافة بينه وبين القارئ، أم يقدم مفهومه للكتابة والنص، باعتبارهما ميادين للمعرفة أيضا، في محاولة لتحديد موقعه وزاوية نظره داخل هذا العالم، ويترك للقارئ البقية بعد رسم معالم طريق ما.

إني أميل هنا إلى الطريقة الثالثة التي يكون فيها المبدع غير مفارق لنصه وطينة إبداعه، بتقديم أفكاره ومعاناته ولو الجمالية، بل أكثر من ذلك معاناة الكتابة كضلع وقول بين الاختناقات والاكراهات. لهذا رأيت نفسي أثناء جلسة مطولة أثناء توقيع وقراءة ديوان “آت شظايا من رسائلهم” في معركة حقيقية، إذ طرحت أسئلة عديدة حول الشعر المغربي والعربي المعاصر من خصوصية قولية ورؤيوية، وسؤال البياض كتقنية ومعنى أيضا، هذا فضلا عن مصير الشعر اليوم بين الهندسات والإستلابات.

وهي أسئلة لا تقتضي لوكا للكلام السريع، بل هدوءا وبحثا قصد إنتاج معرفة تستحق أن ندافع عنها في المجتمع والحياة. وعليه فالمبدع يأتي في تقديم كتابه ليطرح إضاءات، ليدافع عن نصه، وليبحث عن امتدادات في الآخر كقارئ وثقاقة..

أكيد أن القارئ متعدد كنمذجات وشرائح، قارىء متعلم وآخر محلل، وثالث ناقد..بل أكثر من ذلك هناك القارئ الافتراضي الثاوي في التمثلات وفي الإبداع نفسه. وفي المقابل، لا ينبغي إقصاء المبدع كقارئ أيضا، إذ لا كتابة بدون قراءة أو مقروء.

مبدع أكيد أنه يدرك خصوصية قوله وتشكيله الجمالي والرؤيوي، يدرك طبقات استعماله اللغوي، يدرك بعض آليات تصويره.. وأظن أن هذا الزاد هو الذي يجعل الكاتب يخوض مسيرته ومعركته الإبداعية كمحطات وإضافات. فكل كتاب هو لحظة مكتنزة وخصوصية ورؤيا، وليس ترصيفا للكلام وتجميعا بلا روح. في هذه الحالة تكون المسيرة كتجاور لرؤى خلاقة. وفي ظل هذا الوعي الملازم، قد يستفيد المبدع من الملاحظات والأوراق المقدمة حول أعماله، ويأخذ منها ما يجب ويلح، لتجاوز خلاق. وفي غياب ذلك تمرر الكثير من المغالطات والإدعاءات، وتكون المعرفة معطوبة من الجانبين، من طرف المبدع نفسه الذي لا ينصت لتجربته، ولا يعرف خطواته أصلا، ولا الأرض التي يمشي عليها في ركض ورقص بكامل الرياح. فكثير هم الكتّاب الذين يطرحون رهانا ما، مع كتاب يصدر، كالحلم واللغة العامية ورهان الكتابة وتجريب تقنيات ما..لكن الكثير أيضا يكتب ويتركها تسير.

وفي المقابل، يأتي القارئ من المجتمع مشحونا بمعرفة الخطابات الأخرى (التاريخية والسياسية..)، فتغيب المعرفة الأدبية تماما كأرضية ضرورية للتفاعل مع النص الإبداعي، طبعا دون قطيعة أو نفي للمجتمع والحياة. لكن بقليل من الحذر والانتقال المحدد الفقرات بين الإبداع إلى الامتدادات الاجتماعية والفكرية، بقليل من ذلك يمكن ربط الصلة بهذا الإبداع الذي يقيم في الحقيقة غير المتصلبة ولا المتسلطة، ويقيم أيضا في الحرية كهواء يوخز بالعبق. أعني يقيم في المعالم الأساسية لإمبراطورية الإبداع.

 وطالما يظل التواصل معطلا، تبقى الضربات الخلاقة تحيا في الخلف بكامل المجرى الآخر الذي لا ينقاد ولا تحيطه الطبول بأي لغو؛ بل يخلق ماءه ويحفر في الهشيم مجراه. فلننصت للأديب عزالدين التازي وهو يتحدث عن هذا المجرى.

12