مجيد جمول نحات بجوهر استفهامي كامن

فن مجيد جمول لا يشكل نوعا من الحل الجمالي المحلي، لقد وهبته حياته البديلة معنى أن يكون فنانا. هو اليوم يفعل ما يراه مناسبا له ولفنه.
الأحد 2018/05/27
له خفة مستعارة من طائره

 منذ طفولته عرفت يداه طريقهما إلى الطين باعتباره موطن أسرار. كان يرى بعينيه أشكالا سيكون عليه أن يستخرجها من داخل قطع الطين ليتأكد من أنها كانت موجودة قبل أن تظهر.

لقد ارتبط النحت لديه بالخفة وهو ما جعله في ما بعد ينشد إلى عالم الإسباني تشيلدا. هناك سحر خفي في الأشكال النحتية دفعه إلى الارتباط بعالم تتنفس كائناته هواء حياة مجاورة.

ما بين طفولته في السويداء السورية وشبابه الذي انقضى في وارشو البولندية تقع سنوات من التأمل في معنى أن يكون المرء فنانا. وهو المعنى الذي حرص مجيد جمول أن يكسبه حياة، صارت بالنسبة له هي الحياة الحقيقية التي تستحق كل الشظف الذي عاشه من أجل أن يكون كائنا حرا يعبّر عن حريته بالنحت.

حين التقيته في الكويت شدني إليه هدوءه الاستفهامي. في منحوتاته شيء من ذلك الهدوء. لقد روى لي حكاية بحثه عن قبر أبيه الذي توفي شابا قبل عقود في الكويت ودفن هناك.

كان ذلك القبر لغز حياته. الأثر الروحي الذي عجز عن الوصول إليه. وفي الوقت نفسه كانت يده لا تزال تلمس قطع الآثار التي كان يعثر عليها طفلا في مدينته حالما في أن يكون صانعها.

بين دمشق ووارشو

 فن مجيد جمول لا يشكل نوعا من الحل الجمالي المحلي
 فن مجيد جمول لا يشكل نوعا من الحل الجمالي المحلي

لجمول شغف بفن الميدالية. هي نوع من النحت البارز اذي يخلد ذكرى من نوع خاص. وهي بالنسبة له فرصة للانتشار. غير أنها في الوقت نفسه تمثّل تحديّا من نوع خاص لما يتطلبه إنجازها من بحث عن الخلاصات التي تنتج رموزا. ومن شغفه بفن الميدالية تعلم جمول أن يكون مقتضبا لا يسهب. جمله قصيرة. هناك فاصلة للتأمل تفصل بين جملة وأخرى. وهو مبدأه في النحت. حيث لا تتشابه أعماله كما لو أنها جزر متجاورة. تقود كل جزيرة إلى أخرى من غير أن تمهد لها.

ولد مجيد حسن جل في قرية ريمة حازم بالسويداء عام 1948. ما بين عامي 1964 و1968 درس الرسم والنحت في مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية بدمشق. عام 1969 بدأ دراسة النحت في أكاديمية الفنون الجميلة بوارشو. عاد إلى دمشق عام 1975 حاملا شهادة الماجستير التي أهّلته لتدريس مادة النحت في كلية الفنون الجميلة حتى عام 1981 ومن ثم انتقل إلى العمل مديرا لمركز أدهم إسماعيل ما بين عامي 1981 و1990. عام 1987 حاز على منحة للبحث العلمي من ألمانيا الاتحادية. بين عامي 1991 و1998 تبوأ منصب أمين سر نقابة الفنون الجميلة بسوريا. بعد عودته إلى بولندا أصبح رئيسا لجمعية النحت في فرع اتحاد التشكيليين البولنديين بوارشو.

أقام أول معرض شخصي لأعماله عام 1975 وذلك في نادي الصحافة والكتاب الدولي بوارشو. أما آخر معارضه الشخصية فقد أقامه عام 2013 في “تارا” بالدوحة. وما بين المعرضين كان له حضور لافت في المعارض الجماعية والمشتركة في سوريا وبولندا. كما شارك في عدد من ملتقيات النحت في (الصين، فرنسا، تركيا، دبي، تونس، إسبانيا، إيران وبلجيكا) وترك منحوتاته هناك. له أربع جداريات في دمشق.

الواضح والغامض معا

جمول ليس نحات حكايات
جمول ليس نحات حكايات

بالرغم من شغفه غير المحدود بالنحت الجداري وبصنع الميداليات فإن جمول أنتج الكثير من الأعمال النحتية والأنصاب المدورة. وقد تكون منحوتاته المدورة من وجهة نظري أكثر رقة وشاعرية من جدارياته التي تغلب عليها المباشرة وتعمد الوضوح، بسبب ارتباطها بمناسبات رمزية عامة في حين تماهت منحوتاته المدورة مع نزعته الأسلوبية بما انطوت عليه تلك النزعة من غموض جمالي.

عرف جمول متى يكون غامضا وكيف يكون واضحا. سره في ذلك يكمن في الحرفة. كأي نحات حقيقي يقضي جمول الجزء الأكبر من وقته صانعا ينفذ أوامر الفنان الخلاق الذي يقيم في أعماقه. يغلق ذلك الفنان عينيه على أحلامه مطمئنا فيما يظل الصانع يقظا يعمل. جمول وهو نحات حقيقي يعرف كيف يوزع الأدوار بين الفنان والصانع.

ليس جمول نحات حكايات. وهو ما يظهر جليا في منحوتاته المدورة. ذلك لأن الحكاية تكون ضرورية بالنسبة للمنحوتات ذات الصلة بوقائع وشخصيات تاريخية عامة. وهو ما حاول النحات التقليل من أضراره من خلال لجوئه إلى الخلاصات التي تهب المنحوتة أو النصب طابعا رمزيا.

لا تخطئ العين طريقها إلى مرجعية تلك الخفة التي تتميز بها منحوتات جمول المدورة. النحات نفسه لم يخف ذلك بل أظهره بقدر لافت من الثقة حين جعل من “الطائر” ملهما للأشكال التي يبتكرها. ففي معظم تلك أعماله النحتية هناك حضور لطائر، ظاهر أو خفي. ظهور ذلك الطائر بجناحيه أو من خلال إيقاعه لا يقلل من قوة الإحساس بقوة حضوره. وهو ما يضعنا وجها لوجه أمام عمق وأصالة العلاقة التي يقيمها جمول مع

طائر النحات الروماني كونستانتين برانكوزي (1876 ــ 1957) الشهير. لا تقع تلك العلاقة على سبيل الاستعارة، بقدر ما يستحضر النحات السوري روح المنحوتة التي صارت جزءا ملهما من تاريخ الفن في القرن العشرين.

حرر طائر برانكوزي جمول من الحاجة إلى الحكايات. وهو ما قربه من خلاصه فنانا لم تغره المحلية بمعالجاتها الجمالية الجاهزة فاتحا ذراعيه لهواء العالم. هناك حيث انتقل النحت من الوصف التوضيحي إلى الجمال المجرد من المنفعة المعرفية المباشرة.

مجيد جمول نحات استفهامي
مجيد جمول نحات استفهامي

حين كنت أنظر إلى عيني جمول كنت أرى طائره الحر يجول في فضاء استفهامي. لدى هذا النحات الكثير من الأسئلة التي تتعلق بحميمية الصلة بالأشياء من حولنا، وهو ما لا يدركه الوصف.

في لقائنا الذي امتد لأيام حاولت أن أحاوره غير مرة غير أن النتيجة لم تكن مشجعة. كان هناك شيء كامن فيه لا يمكن استخراجه وهو ما يمكن أن يهتدي إليه المرء حين يرى عددا من أعمله. حرص ذات مرة على أن يرتدي معطفا بالرغم من أن الطقس لم يكن باردا. “تلك عادته في التخفي” قلت لنفسي. ذلك ما قادني إلى التعرف على سلوكه الفني الذي يستند أساسا إلى التفكير في الجوهر لا في المظهر. وهو ما يجعله كائنا عازفا عن الاستعراض. ذلك ما يطبع أعماله بشيء من السرية على مستوى المعنى.

يحتاج المرء إلى وقت، يسمح له بإقامة علاقة مع تلك الأعمال، بما يقود إلى جوهرها. فهي لا تصدم ولا تصرخ ولا تمارس تأثيرا بصريا مباشرا. تلك الأعمال تشبه صاحبها من جهة تواضعها الكريم. تلك فلسفته في الحياة والفن معا.

لا يشكل فن مجيد جمول نوعا من الحل الجمالي المحلي. لقد فعل الرجل حسنا حين اختار العودة إلى بولندا والاستقرار فيها. لقد وهبته حياته البديلة معنى أن يكون فنانا. هو اليوم يفعل ما يراه مناسبا له ولفنه.

صحيح أن جمول لا يميل كثيرا إلى التجريد، غير أنه بالرغم من تمكنه الأكاديمي لا يميل إلى أن يكون واقعيا. تكشف تجربة جمول أن هناك الكثير من الخيارات الأسلوبية تقف بين الأسلوبين التجريدي والواقعي. ولقد اختار الفنان عن وعي أن يقيم في تلك المسافة الحرة التي صار يلتقي فيها كائناته ويتلقى إلهامه من عثراته في محاولته التناغم مع أسئلتها الوجودية.

مجيد جمول نحات استفهامي وهي صفة تقود إلى جوهره.

9