طيار أميركي يسقط في حقل فلاح عراقي وتبدأ الحكاية

الروائي محمد علوان يتجاوز عقدة السارد الذاتي ليترك لأبطاله أن يمارسوا بحرية لعبة السرد، لكشف عوالمهم المحتشدة بالخيبة.
السبت 2018/05/05
المثقف البطل والمثقف الضحية هما أنموذجان فاعلان في الرواية

يضعنا الروائي محمد علوان جبر في فضاء اللعب السردي، وفي سياق قدرة الكتابة الروائية على أنْ تكون شهادة على الواقع، وإلى التعاطي مع الوحدات السردية- الحدث، الزمن، المكان، الشخصية- من منطلق بُعدها الوظيفي أو من خلال طاقتها الإيجابية، والتي عمد عبرها الروائي إلى صياغة مقاربات تصلح لاستبيان ما يمكن أن تحمله الشخصيات، أو ما يمور به زمن السرد من تحولات عاصفة كنقيض للزمن الواقعي.

البناء الواقعي في روايته الجديدة “لماذا تكرهين ريمارك؟”، والصادرة عن دار الحكمة/ لندن 2018، لا يتقاطع تماما مع تحولات الغرائبية التي استغرقتها تلك اللعبة السردية، ليس لأن الواقع العراقي كان مسكونا بالرعب السياسي، بل لأن الروائي تجاوز عقدة السارد الذاتي ليترك لأبطاله أن يمارسوا بحرية لعبة السرد، لكشف عوالمهم المحتشدة بالخيبة.

إن تعدد بؤر السرد في هذه الرواية تدخل في باب التبئير السردي للأحداث، وفي مقاربتها للمفارقات التي تعيشها شخصيات الرواية، ومن خلال شبكة الوظائف التي تؤديها كبعد سيميائي، أو كبعد استعاري، أو كبعد سايكولوجي، له دوافعه وأغراضه، والتي أعطت لهذه الشخصيات وظيفة مجاورة تتجوهر حول فكرة “الشاهد”.

 فأغلب الشخصيات تعيش هواجس هذه الوظيفة، حيث الشهادة على الهزيمة السياسية، وعلى الحرب، والمنفى، وعلى الخراب الذي أصاب الحلم، والمكان، فثريا الماكثة في المكان، هي شاهدة على التحولات المرعبة، وبرهان الشخصية المطرودة والمفقودة يعيش هاجس الشهادة عبر هزيمته “الثورية”، وعبر طبيعة علاقته المضطربة والمشوهة مع الأمكنة، ومع الآخرين، وأكرم الذي فقد ساقه في العمليات الإرهابية، يُخضِع الواقع إلى لعبته السردية، عبر تقانة كتابة السيناريو، أو عبر ما تلتقطه زاوية نظره، وشغف الحكواتي الذي يرى ذلك الواقع عبر حيله السردية، وشخصية هالة عبدالمحسن تعيش يوميات أضحويتها كقربان للحب المعطوب مع برهان، وللزمن السياسي عبر فداحة خساراتها الجنسية والوطنية.

رمزية المثقف في هذه الرواية لا تبدو واضحة في السياق الروائي، لأن محنة السياسي والثوري/ الحزبي كانت أكثر حضورا في موضعة الأحداث تحت مراقبها، وفي سياق بنية سردية كانت أكثر تعبيرا عن المحنة الوجودية بوصفها الأنطولوجي، وليس بوصفها الثقافي، وأن أنموذج المثقف اليساري الحالم والمتمرد يبدو أكثر استيهاما في تمثيل ملامح محنة المثقف، عبر تعالقها بالصورة النمطية لمحنة السياسي اليساري المُلاحق، وعبر تحولاتها اللاحقة في مدن المنفى، وفي سياق استغراقاته النفسية والاجتماعية والجنسية.

المثقف البطل والمثقف الضحية هما أنموذجان فاعلان في هذه الرواية، فهما يعيشان رعب القمع السياسي، ورعب الحرب الطويلة، مثلما يعيشان رعب الاحتلال والصراع الأهلي. وحتى سيمائية “الشهادة” التي يعيش هواجسها المثقف تفقد الكثير من إيقاعها إزاء ما تحفل به طبيعة اللعبة الروائية، والتي هي لعبة صراع، وانكسار، ووهم.

ولا يحضر المكان في الرواية بوصفه الواقعي المجرد، بل برمزيته في الإشارة إلى محنة المثقف في ذلك المكان، فمدينة الثورة هي ذاكرة للمثقف الجنوبي المسكون بذاكرة الفجيعة، ومدينة بيروت تحضر في الرواية كمكان سيميائي لفكرة “التحول” التي يقترحها الخطاب الروائي بوصفها الإيروسي والنفسي، وحتى فلسطين التي تحضر عبر شخصية سميرة اليعقوبي لا تعدو أنْ تكون إشارة إلى فكرة الفقد في الواقع، والتعويض عبر اللعبة السينمائية، أو عبر التماهي الجنسي.

علاقة المكان بالشخصية هي العلاقة المفصلية في الرواية، فعبرها يمكن تتبع ثيمة التحول، وثيمة الصراع الداخلي الذي تعيشه تلك الشخصية، وخارج لعبة المكان تتجلى ثيمة المتاهة بوصفها النفسي والإيهامي، إذ هي الجحيم، والمحو، مثلما هي الضياع والفقد والعجز، وحتى السيناريو الذي يكتبه أكرم عن ضياع الطيار الأميركي في مزرعته، وبحث القوات المحتلة عنه ليست بعيدة عن تلك المتاهة، إذ يتحول المكان إلى بؤرة للعنف، وللسرد أيضا، ولمخيلة الكاتب في أنْ يقترح مصيرا للمفقود، وتعرية لشخصيته، لأنه أفشى بأسرار القوات الأميركية لناصر جواد صاحب المزرعة التي هبط عليها بالمظلة بعد أن سقطت طائرته.

تقانة الميتاسرد في الرواية وجدت في لعبة تشظية المكان فضاء تخيليا لتعرية الآخر، وكأن الروائي أراد أن يدين الاحتلال الأميركي للعراق من خلال تقانة النص المجاور، النص المُحرَر من السياق السردي الأفقي لأحداث الرواية، ولتبرير وجود لعبة التناص بين كراهية السلطة وكراهية ريمارك للحرب مع كراهية أكرم للاحتلال وللمغامرين الذين ذهبت ساقه ضحية لفخاخهم المجنونة.

15