من يحاصر من؟.. سؤال تكرره طهران على واشنطن

لم تتمكن إيران من استخلاص قراءة واضحة من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي قال فيها أثناء لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إطار زيارة يؤديها ماكرون إلى البيت الأبيض الأسبوع الجاري، إنه يريد الانسحاب من سوريا لكن دون منح طهران فرصة الوصول إلى البحر المتوسط.
ويعود ذلك إلى ترابط الملفات وتعقدها، إلى درجة لم يعد معها التوتر المتصاعد بين واشنطن وطهران حول الاتفاق النووي بمنأى عن تطورات الأحداث في سوريا، أو حتى عن اللقاء المحتمل بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، الذي ستراقبه طهران بدقة لما لنتائجه من تأثيرات مباشرة على مواجهتهما المحتدمة.
وتشير التوقعات إلى أن عزوف إدارة ترامب عن اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيل هذه التصريحات سيكون محل ترحيب من قبل إيران.
وتستند في ذلك إلى أن تلك الخطوة، في حال حدوثها، تمثل فرصة ثمينة للأخيرة لتعزيز تمددها في سوريا ومواصلة بناء ممرها الاستراتيجي للحفاظ على دعمها لحلفائها، لكن لا يمكن استبعاد أن يكون العكس هو الصحيح أو أن تكون هناك قراءة أخرى للمسألة داخل طهران؛ فالوجود العسكري الأميركي في سوريا بقدر ما يمثل تحديا للأخيرة يوفر فرصة لها.
بمعنى آخر، يمكن القول إن أحد أهداف واشنطن، المعلنة، من استمرار بقاء قواتها داخل سوريا هو عرقلة المشروعات الإيرانية خاصة ما يتعلق بتحويل إيران، واقعيا، إلى دولة مطلة على البحر المتوسط، لكن هذا لا ينفي أن هذه السياسة تحول القوات الأميركية إلى ما يشبه “رهينة” في أيدي طهران، تستطيع من خلالها ممارسة ضغوط على واشنطن. فقد وضعت واشنطن بذلك أهدافا ومصالح أميركية كبيرة في مرمى المدفع الإيراني، بشكل يوفر لطهران ورقة تستطيع التلويح بها في حال وصل التصعيد بين الطرفين إلى درجة أن يُفتح فيها الباب على مسارات أو خيارات لم تكن مطروحة في الفترة الماضية.
يتعزز هذا الاحتمال مع اقتراب انتهاء موعد المهلة التي حددتها الإدارة الأميركية قبل أن تقوم بتحديد موقفها من تمديد أو وقف تعليق العقوبات الأميركية المفروضة على إيران في مايو المقبل، دون أن تظهر مؤشرات على إمكانية الوصول إلى تسوية للخلافات بين واشنطن وطهران.
وبدأت الأخيرة أيضا في التلويح بإعادة رفع مستوى نشاطها النووي من جديد، في غضون أيام، وقال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، بداية أبريل الجاري، إن بلاده يمكن أن تعيد تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 20 بالمئة خلال أربعة أيام فقط إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق.
إيران تريد الوصول إلى درجة من الردع تجعل واشنطن تفكر أكثر من مرة قبل أن تقدم على عمل عسكري ضدها
وهنا يصعب استبعاد الخيار العسكري، رغم العقبات التي تواجهها واشنطن، ليس فقط لأن ذلك يقرب إيران من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، وإنما أيضا لانضمام مسؤولين جدد إلى الإدارة الأميركية يضفون وجاهة على هذا الخيار، باعتبار أنه الوحيد القادر على حل المشكلات العالقة مع إيران. وإذا اتجهت إيران إلى تنفيذ تهديدات صالحي، فإنها ستبحث عن أوراق ضغط للتلويح بها في مواجهة واشنطن، واستخدام هذه الأوراق عند الضرورة إذا تطورت الأمور إلى مستويات تصعيدية أصعب. ويمثل الوجود العسكري الأميركي في المنطقة هدفا أساسيا لها في هذا السياق.
ولا يمكن تصور أن يكون هدف إيران في هذا السياق تدمير هذه القوات، مثلا، وهو احتمال يفتقد القدرات اللازمة والإرادة السياسية لتنفيذه، ويرفع تكلفة أي توجه أميركي لتفعيل الخيار العسكري في مواجهتها، بشكل قد يدفع واشنطن إلى التراجع عنه. بمعنى آخر، تريد إيران الوصول إلى درجة من الردع والمناورة تجعل واشنطن تفكر أكثر من مرة قبل أن تقدم على عمل عسكري ضدها. هذا الردع لا يرتبط بالقدرات العسكرية، في ظل الخلل الكبير في توازن القوى بين الطرفين، وإنما بـ”القدرة على الإيذاء” أو “إلحاق الضرر” بمصالح الطرف الآخر، بشكل يقلص من أي انتصار عسكري قد يحققه.
وباتت القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة موضع متابعة مستمرة من جانب إيران، وهو ما عبر عنه أكثر من مسؤول عسكري إيراني.
وقال رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في الجيش العميد أحمد رضا بوردستان، مؤخرا، إن “القوات المسلحة الإيرانية ترصد جميع التطورات الجارية في القواعد العسكرية الأميركية بالمنطقة وتعرضها على الخبراء لتحليلها”.
وأكد نائب قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي، في الـ10 من الشهر نفسه، قدرة بلاده على تدمير القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، مشيرا إلى أن الأخيرة في مرمى الصواريخ الإيرانية. ولا تعد هذه السياسة التي تعتمدها إيران إزاء الوجود العسكري الأميركي جديدة، بل تعود إلى عقود سابقة، سعت فيها إيران إلى امتلاك أوراق ضغط للتلويح بها في مواجهة واشنطن.
واتضح ذلك بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق عامي 2001 و2003، حيث اعتبرت إيران أن الوجود العسكري الأميركي بالقرب من حدودها يفرض تهديدات لأمنها ويمنحها في الوقت نفسه فرصة لاستهداف مصالح الولايات المتحدة الحيوية.
وذكر الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني (توفي في 8 يناير 2017) عبارة شهيرة عكست إلى حد كبير الموقف الإيراني من هذه المسألة؛ ففي رده على سؤال لأحد الصحافيين حول رؤية إيران لتداعيات الحصار العسكري الأميركي لها من أفغانستان شرقا والعراق غربا، قال “مَن يحاصر مَن؟”، في إشارة إلى أن هذا الوجود العسكري يمثل نقطة قوة لإيران التي يمكن أن تستهدفه في حال تعرضها لهجوم أميركي.
ويمكن أن يُقرَأ الأمر من زاوية أخرى؛ إذ يمكن أن يؤدي اتجاه الولايات المتحدة إلى إعادة التلويح بخيار الانسحاب العسكري من سوريا مرة أخرى إلى خلط أوراق إيران، بشكل قد لا يمثل خبرا سارا بالنسبة لها.
يعود ذلك إلى اعتبارين رئيسيين؛ فالوجود العسكري يوفر للنظام الإيراني مبررا لتمرير إصراره على التمدد في الخارج، مع تصاعد حدة الاستياء الداخلي من استنزاف الخزينة الإيرانية لخدمة هذا التمدد.
ويحرص النظام في هذا الإطار على ترويج فكرة أن ما يقوم به داخل بعض دول المنطقة يحاول من خلاله مواجهة التهديدات التي تتعرض لها مصالح إيران قبل أن تصل إلى حدودها. من هنا يمكن تفسير أسباب إصراره على الربط بين الوجود العسكري الأميركي في سوريا ومزاعمه حول دعم واشنطن للتنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم داعش، على نحو انعكس على مواقف مسؤوليه من الضربات العسكرية التي شنتها الدول الغربية الثلاث على المواقع الخاصة بالأسلحة الكيمياوية التابعة للنظام السوري في 14 أبريل الجاري.