هل مازالت هناك حاجة للسفارات في عصر الشبكات الاجتماعية

مدريد - سبق أن وصف أستاذ الصحافة والدبلوماسية العامة فيليب سيب في كتابه “مستقبل الدبلوماسية” الدبلوماسيين بأنهم “رجال بيض البشرة، أنيقون، يتحلون بالحكمة والحزم”. لكن هذه السلالة آخذة في الانقراض اليوم في هذا العصر الرقمي.
احتكر هؤلاء “الأنيقون” العلاقات الدولية منذ زمن بعيد، فمثلوا هم صوت الدولة، بل اعتمدت عليهم الدولة في تأثيرها وهيبتها، وتوقّف عليهم أيضا مصير الإنسانية من خلال المعاهدات التي كانت تُصاغ في الخفاء.
وقد كونوا ناديا ذكوريا مختارا، غير قابل للمساس، ملما باللغات، وكانوا قادمين من الطبقة الأرستقراطية، يلعبون الغولف، يحملون شهادات تقديرية من أوكسبريدج، ويعملون على نار هادئة (قبل قليل من اختراع التلغراف). وفي إسبانيا مثلا، قدرت صحيفة الباييس الإسبانية أن النادي يضمّ 1000 عضو.
وكانت السفارات (وهي قصور أنيقة على الطراز الفرنسي غالبا)، أداة لبناء الشبكات والحصول على المعلومات. لقد كان الدبلوماسيون جواسيس ذوي ياقات بيضاء.
يوضح كاتب المقال في صحيفة الباييس الإسبانية أن الدبلوماسيين لم يكن بوسعهم حتى الزواج دون موافقة الوزير.
الدبلوماسية الرقمية
إن أي تحليل للعلاقات الدولية يكون من نقطة انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد شهد العالم منذ انتهاء الحرب الباردة (1990) تحولا جذريا في الطريقة التي يتعامل بها الفاعلون الدوليون في إدارة علاقاتهم الدولية التي تتعلق بالدبلوماسية والسياسة الخارجية ، ووقف خلف ذلك بعدان هامان يتعلق احدهما بمعدلات النمو المتسارعه في انتشار تكنولوجيا الاتصال والمعلومات وتأثيرها الكبير على ممارسة الدبلوماسية.
أما البعد الآخر الذي كان له دور في تفعيل استخدام تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في نقل المعلومات هو الانفتاح على الخارج وسرعة نقل المعلومات بين الداخل والخارج.
وبدأت حلقة جديدة من موضوعات ليست سياسية تمامًا وتؤثر في الرأي العام بملء أجندات السياسيين، فكل ما يحدث في الخارج يؤثر في الداخل، والعكس أيضًا.
68بالمئة من رؤساء الدول والحكومات لديهم حسابات شخصيّة على تويتر
لكن مع ظهور الإنترنت، أصبحت لدى المواطنين معلومات مباشرة وفورية عما يحدث في العالم. وأصبحوا يشاهدون وينتقدون ويتفاعلون. يؤثرون في السياسة الداخلية والخارجية ليس فقط عبر أصواتهم الانتخابية كل أربع سنوات وإنما يوميًا من خلال فيسبوك وتويتر.
اليوم عبر الشبكات الاجتماعية تصل كل يوم 500 مليون رسالة. الكثير منها يؤثر في السياسة الخارجية، التي احتكرها الملوك والدبلوماسيون لقرون.
لقد أثر الفضاء الإلكتروني على العمل الدبلوماسي من خلال الإنترنت والمحمول والكمبيوتر والاتصالات عن طريق الأقمار الصناعية وما تتيحه مواقع الإنترنت من معلومات جيوسياسية.
وساعد الفضاء الإلكتروني في تغيير شكل العلاقات الدولية عن طريق التأثير على العنصر البشري وعلى فن الدبلوماسية والمبعوثين الدبلوماسيين في طريقة جمعهم للمعلومات وطرق الإرسال، وعملية اختبار الدبلوماسي الذي يجب ان يمتلك قدرة عالية من التعامل مع تكنولوجيا الاتصال والمعلومات ويستطيع أن يتفاعل من خلالها، وكذلك في طبيعة الرسائل التي يمكن أن يبعثها المبعوثون الدبلوماسيون.
ومكن الفضاء الإلكتروني من الحد من إهدار الوقت والموارد في التحضير للقمم بين قادة الدول، وأثرت وسائل الإعلام كذلك على عمل وزارة الخارجية عبر نقل المعلومات والأحداث والتقارير، وأدى ذلك إلى تحول وزارة الخارجية من مجرد محصل للبيانات ومجمع للمعلومات ومنفذ للسياسات إلى متلق للمعرفة ومنسق للمجهودات ومفكر في البدائل ومخطط للاستراتيجيات.
ويتم توظيف الفضاء الإلكتروني في العمل الدبلوماسي عبر أدوات جديدة مثل مواقع الإنترنت الخاصة بالسفارات أو عبر استخدام الشبكات الاجتماعية مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب، والتي أتاحت فرص الوصول مباشرة إلى جمهور الدولة بدلا من الاقتصار على العلاقات مع المؤسسة الرسمية، وأصبحت تلك الأدوات الجديدة تساهم في خدمة أهداف السياسة الخارجية.
لاعبون جدد
لقد ظهر على هذا الكوكب الذي لم تعد فيه حدود، لاعبون جدد، لم تعد الدول ولا المنظمات التي تتجاوز الحدود الوطنية وحدها، فقد دخلت إلى الساحة المنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات والجامعات ومنظمات تقديم الاستشارات وسفارات المجتمعات المحلية والمدن الكبرى. لكلٍ أجندته، بميزانية أحيانا تفوق ميزانيات الدول.
وبدأت الدول تتساءل عما يمكن فعله بدبلوماسييها القدامى الذين تُجندهم وتُدربهم. خاصة إذا كانوا يتدربون على العمل في عصر المعلومات أو لحل أزمات بعينها.
وفي المملكة المتحدة يجري التشديد على ضرورة تنوع أصول وثقافات الدبلوماسيين وتعزيز العمل الجماعي بينهم، وفي فرنسا هناك صيغة متكاملة للدبلوماسية الاقتصادية لكن ليست هناك دولة على استعداد للتخلي عن بعثاتها الدبلوماسية.
وجود هذه البعثات في العواصم الكبرى مسألة مكانة. وكما يوضح السياسي كارلوس ويستندروب وزير الخارجية السابق والسفير السابق لدى واشنطن “العنصر الرئيسي في الدبلوماسية هو تحقيق الألفة مع الآخر وهذا لا يحققه الروبوت”.
ويضيف “هل تعرف ما يقوم به سفير في الحقيقة؟ إنه يقوم بتكوين صداقات، في السفارات، هناك تتكون شبكات العلاقات”.
ويقول السياسي برناردينو ليون الأمين العام السابق لرئاسة الحكومة ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا “في العقود القادمة سيكون العالم أكثر تعقيدًا إننا نعيش على كوكب مفكك وغير متجانس وتصادمي ومتعدد الأقطاب ودون موارد وفي خضم صراع بين الثقافات”.
لقد كانت الدبلوماسية في كل دولة هي العمود الأساسي الذي تستند إليه قراراتها لقرون، كانت هي المنظمة التي تدافع عن مصالح الدولة ووجودها وصورتها، لكنها تحولت من كيان واحد إلى مجموعة متداخلة لديها اهتمامات وأجندات مختلفة تسمى “الدبلوماسية العامة”.
إن الجيبلوماسية الجديدة، تهدف إلى أسر قلوب المجتمع المدني والسيطرة على عقله من خلال الدعاية والثقافة والعلوم والشبكات الاجتماعية.
ويقول كاتب المقال متحدثا عن تحدي استقلال كتالونيا إنه في مجال الدبلوماسية الجديدة لم تُستغل الشبكات الاجتماعية والعلاقات بوسائل الإعلام والندوات والمراكز الفكرية والاجتماعات مع قادة الرأي العام، ولم تقم القوة الناعمة بدورها، وهكذا استطاعت أعمال تخرج عن الإطار الرسمي للدبلوماسية أن تصل إلى الرأي العام وتؤثر فيه وهذا درس جيد لمستقبل الدبلوماسية “الرسائل الرسمية لا تغزو دائمًا قلوب المواطنين في العصر الرقمي”.