تونس.. ديمقراطية الهيمنة

هيمنة حزب حركة النهضة ونداء تونس على الأغلبية البرلمانية في تونس، لم تطبع فقط الراهن السياسي التونسي، بل أثرت كذلك على القادم السياسي، القريب منه والبعيد. التحالف السياسي الذي جمع الحزبين والذي أنتج اتفاقا “تصويتيا” على المداولات وعلى مشاريع القوانين، أفرز مشهدا سياسيا موسوما بالغلبة وبفرض رغبات الحزبين الكبيرين في العديد من المحطات السياسية ومشاريع القوانين، وقانون الانتخابات الذي عاد إلى صدارة المشهد السياسي دليل على ذلك.
بدأت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، الخميس، قبول طلبات الترشح للانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في 6 مايو المقبل. الموعد الذي اعتبره رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، حدثا هاما في تونس ومرحلة مهمة على درب استكمال المسار الانتخابي، كان أيضا فرصة لقطاع واسع من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، لأن تتظلم من القانون المعقد للانتخابات، الذي اعتبر تكريسا للاستقطاب الثنائي الذي شهدته محطات انتخابية سابقة.
في تدشين المسار الانتخابي تذكير بالمواقف المحتجة على القانون الانتخابي، سواء من ناحية الأبعاد السياسية أو من مدخل الأبعاد الإجرائية. على أن كل الاحتجاجات أجمعت على أن القانون الانتخابي المنظم للانتخابات البلدية، معقد ويضع عقبات كثيرة أمام المترشحين، وهو ما يؤدي إلى تكريس هيمنة الحزبين الكبيرين (بتفاوت بينهما) على المشهد السياسي.
المستوى الإجرائي القانوني، وهو المستوى الذي ستتعاطى معه القائمات المترشحة مباشرة، يحفل بالشروط والعقبات التي تجعل عملية تقديم قائمات في كل الدوائر البلدية عملية شبه مستحيلة بالنسبة للأحزاب السياسية والقائمات المستقلة، باستثناء حركة النهضة ونداء تونس (بدرجة أقل)، والدليل على ذلك أن الاتحاد المدني وهو ائتلاف سياسي واسع مشكل من 11 حزبا إضافة إلى مستقلين، لم يتوصل إلى التقدم سوى في 100 دائرة بلدية من أصل 350 دائرة في كامل تراب البلاد، وهذه المحدودية لا تنسحب فقط على الاتحاد المدني بل تنسحب على أغلب الأحزاب السياسية التي أبدت تذمرها، من شروط الترشح ومن العقلية السياسية التي قادت إلى إنتاج ذلك القانون.
شروط التناصف العمودي (التداول بين رجل وامرأة في كل قائمة) والتناصف الأفقي (وجوب توفر كوتا للمرأة لرئاسة القائمات بين 30 و40 بالمئة لدى كل حزب)، إضافة إلى وجوب تمثيل أصحاب الاحتياجات الخاصة، شروط متضافرة ألغت شروط الكفاءة ولم تراع خصوصية الجهات وزادت من صعوبة تشكيل قائمات تتوفر على كل هذه المقتضيات.
هذه الأبعاد الإجرائية التي تضمنها قانون الانتخاب تحيل إلى مناخ سياسي أدى إلى سن القانون الانتخابي الذي أثار جدلا ورفضا عارمين منذ بدء نقاشه، ويحيل كذلك على مستقبل المشهد السياسي في تونس بمجرد وضع الانتخابات البلدية أوزارها.
مشهد سياسي يتحكم في مفاصله وتشريعاته وهندسته الحزبان الكبيران، النهضة والنداء، ولا يخدم على المدى البعيد والمتوسط سوى مصالح النهضة بدرجة أولى. وأولى الأدلة على ذلك أن حركة النهضة هي الحزب الوحيد الذي توصل إلى ترشيح قائماته في كل الدوائر الـ350، ويليها في الترتيب حزب نداء تونس الذي مازال يكابد من أجل تجاوز سقف نصف الدوائر.
مشهد سياسي ينتظر أن يسفر قريبا عن مشهد موسوم بالمزيد من الاختلال لصالح النهضة أساسا، حيث لا يستغرب أن تجد النهضة نفسها مترشحة وحيدة في العديد من الدوائر الانتخابية، وهو ما سيؤدي تبعا لذلك إلى اجتياح نهضوي لأغلب المقاعد البلدية.
هذا المشهد المنتظر، تضافرت عديد العوامل السياسية والقانونية والإدارية في إنتاجه. القانون الانتخابي الذي هُندس من قبل الأغلبية البرلمانية النهضوية الندائية، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى هذه النتيجة، ويضاف إلى ذلك أن الأحزاب لم تستعد جيدا لهذا الحدث المفصلي، حيث بدأت بعض الأحزاب في إعلان انسحابها من الانتخابات (بدأ ذلك مع إعلان الاتحاد الوطني الحر عدم مشاركته في الانتخابات) فضلا عن ظاهرة العزوف السياسي والتي ترجمت في الانتخابات الجزئية في دائرة ألمانيا منتصف ديسمبر من العام الماضي، وهي عوامل تسمح بالقول إن الانتخابات البلدية القادمة ستكون محطة للغلبة والهيمنة، وأنها انتخابات ستحسمها هندسة سابقة للمشهد السياسي التونسي.
في التاريخ السياسي دروس مشابهة ومنها أن غلبة حزب العدالة والتنمية التركي بدأت من شوط الانتخابات البلدية عام 2004.