أكثر من 20 مليون يمني في دائرة الفقر

صنعاء - لم يعتد المصلون رؤية النساء في المساجد يستغثن طلبا للمساعدة، لكن ملاك (40 عاما) تجاوزت عادات المجتمع وظهرت عقب أداء المصلين لصلاة الجمعة بوجهها الشاحب وعينيها المغرورقتين بالدموع التي تسيل على خديها، فتجففها بأطراف جلبابها، فيما تجر ابنتيها وابنها باليد الأخرى، وجميعهم عليهم أثر المشقة والإعياء.
صرخت ملاك بصوت متلعثم، “اقتلوني.. اذبحوني.. افعلوا ما شئتم لأني وقفت أمامكم في موضعٍ لم تعتادوا فيه رؤية النساء، لكني عجزت عن إيجاد حيلة أخرى، فمنذ أيام ونحن نقتات على بقايا فتات أطعمتكم التي ترمى في صناديق النفايات، حتى ضاقت بنا السبل، وكدنا نهلك".
ملاك التي، طلبت عدم تصويرها وعائلتها، تقيم مع زوجها وأولادهما في مسكن عشوائي يقع في منطقة مذبح بالضاحية الشمالية الغربية للعاصمة صنعاء، التي تنتشر فيها المساكن العشوائية المفتقرة للحد الأدنى من الخدمات الحضرية.
زوج ملاك المصاب بداء السكري كان حاضرا في المشهد، لكنه لم يستطع فعل شيء، فقد عجز عن الوقوف على ساقيه، وجسمه يرتجف من شدة الجوع، وألم المعاناة لمشاهدة زوجته وأولادهما بتلك الحالة.
تصبب الزوج عرقا وأغمي عليه، وحينما رأته زوجته بهذا الحال لم تصمد طويلا، فأغمي عليها هي الأخرى.
400 ألف طفل معرضون للوفاة وقد يمتد هذا الوضع ليشمل عشرات الآلاف من الأطفال الآخرين
عمار الذي حضر المشهد تحدث عن الواقعة قائلا “لم أر في حياتي مشهدا بهذا الألم، صراخ الأطفال، شدة وجوم الوجوه، دموع شديدة السخونة، لو نطقت لقالت ألف حكاية وحكاية عن حال مأساوي أضحى فيه الأحياء بين موت خلف الجدران أو موت آخر بالذل عند الوقوف، ومد اليد لطلب المساعدة من مجتمع يعاني معظم سكانه من الفقر المطبق".
بعض الحاضرين قاموا بنقل أفراد تلك الأسرة إلى منزلهم الذي تراكم إيجاره عليهم منذ سنوات، لم يجدوا في المنزل ما يمكن اعتباره مؤهِلا للعيش، لا طعام ولا ماء، ومعظم الأدوات تم بيعها.
الماء يتم الحصول عليه في الوضع الطبيعي بصعوبة عبر (الوايتات)، في حال تيسّر ذلك من أحد المتبرعين، ويكون أشد صعوبة عند انعدام المشتقات النفطية ومضاعفة أسعار البيع لخزان المياه، والتي تصل إلى نحو تسعة آلاف ريال (نحو25 دولارا)، وعلى الفور حمل آخرون من فاعلي الخير (أنسام 10 سنوات) إحدى البنتين، إلى مرفق صحي وتبين أنها أصيبت بالكوليرا نتيجة الأكل من النفايات، ولو لم تكن إصابتها حديثة لكانت فارقت الحياة، كما قاموا بجمع ما يسد رمق الأسرة لأيام معدودة، لكن المعاناة ذاتها تتكرر بين الحين والآخر لهذه الأسرة ولغيرها من الأسر.
جيران هذه الأسرة المعدمة هم الآخرون ليسوا أفضل حالا منها، فالفقر معشعش في منازلهم ولا يحصلون على أبسط الخدمات التي تؤهلهم للعيش الكريم.
الحرب الدائرة في اليمن منذ قرابة ثلاثة أعوام، وما رافقها من انعكاسات سلبية مثل توقف صرف مرتبات موظفي الدولة، والإعانات النقدية للمشمولين بالضمان الاجتماعي لنحو عام كامل، وفقدان مئات الآلاف من اليمنيين لوظائفهم في القطاع الخاص، سببت تراجعا في القدرة الشرائية لغالبية اليمنيين، ما رفع نسب الفقر إلى أكثر 85 بالمئة.
وأكد خبراء اقتصاد أن حالة الشلل التام الذي أصاب الاقتصاد اليمني، فتحت المجال واسعا لبروز ما يمكن تسميته بـ”الاقتصاد الخفي” غير الأخلاقي المعتمد على السوق السوداء والمضاربة بالعملة، ما حمل المواطن البسيط أعباء هذه التحولات الكارثية، والتي أدت في المجمل إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والدواء والمشتقات النفطية بنسب تصل إلى 500 بالمئة، خاصة مع تراجع أسعار الريال اليمني أمام الدولار الأميركي، إلى 445 ريالا للدولار الواحد.
نقص الغذاء وسوء التغذية وتفشي الكوليرا غير المسبوق والتلاشي شبه الكامل للنظام الصحي الوطني، عوامل تجعل اليمن في غاية الخطورة على الجميع
وبحسب مؤشرات حديثة لمنظمة اليونيسف، فإن 20.7 مليون شخص من أصل نحو 25 مليونا يحتاجون لمساعدات إنسانية في العام 2017، نصفهم يحتاجون لمساعدات عاجلة.
وتؤكد المؤشرات أن 6 من كل 10 يمنيين يقاسون انعدام الأمن الغذائي، وأن 90 بالمئة من السكان لا تصلهم الكهرباء العمومية، 8 من كل 10 يمنيين عليهم ديون، مشيرة إلى أن 2.9 مليون شخص نصفهم من الأطفال نزحوا داخليا بسبب الحرب حتى شهر يونيو 2017، عاد منهم نحو 900 ألف نازح إلى مناطقهم، مقابل 2 مليون شخص مازالوا نازحين داخليا.
ودعا مارك لوكوك، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، “جميع أطراف النزاع في اليمن إلى توفير وصول إنساني إلى المحتاجين بشكل آمن وسريع ودون معوقات، وذلك عبر جميع الموانئ والمطارات بما فيها ميناء الحديدة ومطار صنعاء”.
وكشف المدير التنفيذي لليونيسف أنتوني ليك في بيان أصدره في 9 نوفمبر الجاري أن “هناك نحو 400 ألف طفل في اليمن معرضون لخطر الوفاة بسبب سوء التغذية الحاد الوخيم، واحتمال أن يمتد هذا الوضع ليشمل عشرات الآلاف من الأطفال الآخرين، ما يعني عشرات الآلاف من الكوارث على المستوى الشخصي للأطفال وللأهل المفجوعين، وهو أمر غير إنساني على الإطلاق”.
وحذرت منظمة اليونيسف في وقت سابق من تفاقم الأوضاع، وقال ممثلها في اليمن جوليان هارنيس إن “المنظمة تـتوقع ازدياد حالات سوء التغذية في كافة أنحاء البلاد، بسبب الوضع الإنساني المتردي جراء النزاع هناك”.
وأوضح قائلا “نتوقع زيادة في سوء التغذية بجميع أنحاء البلاد، سواء كان ذلك في مناطق النزاع أو غيرها، لأن 60 بالمئة من السكان يعيشون أصلا تحت خط الفقر، كما أن إيرادات الناس تتراجع، وتكاليف المعيشة ترتفع وقد ضعفت الخدمات الحكومية إن لم تكن انهارت”.
ونبه هارنيس إلى أن “صعوبة الوصول إلى المياه وزيادة أسعار الأغذية وصعوبة التجول ونقص مياه الشرب كلها مجتمعة مع تراجع خدمات الدول، ستؤدي إلى تراجع عدد الأطفال الذين يتوجهون إلى المدارس وزيادة في سوء التغذية”.
وقدرت اليونيسف عدد الأطفال الذين باتوا محرومين من المدرسة بحوالي مليون طفل، كما تسبب النزاع، وفق اليونيسف، في نزوح أكثر من 100 ألف شخص.
ومن جهة أخرى أكد صندوق الأمم المتحدة للسكان أن نقص الغذاء وسوء التغذية وتفشي الكوليرا غير المسبوق والتلاشي شبه الكامل للنظام الصحي الوطني، كلها عوامل تجعل اليمن في غاية الخطورة على الجميع وبخاصة النساء والفتيات.