قبل جموح الأصوليات
كُنت في ظهيرة بغدادية باردة في منتصف التسعينات من القرن العشرين أتجول في عاصمة الرشيد وأتفقد مفاتنها. بدت آنذاك تُغالب حصارها، ولا يخلو شارع من معرض دائم لرسام أو ناد ثقافي أو ديوان لورَّاق يُجلّد كُتبا ويعمل فيه خطاطون من ثلاثة أجيال، يُمسك كلٌ منهم بقصبته المسنونة، يدسّ رأسها في الحبر ويكتب على ورق لامع!
بسيارته المجهدة اصطحبني الناقد حاتم الصكر إلى وسط المدينة حيث سوقها الثقافية منذ عصر العباسيين في شارع المتنبي. قصدنا موضع “أبي ربيع” كبير الباعة الذي ينادي على بضاعته جالساً مردداً بإيقاع غنائي بيتاً للمتنبي نفسه: أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ/ وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمَانِ كِتَابُ.
كان المتنبي يوازي بين الكتاب وسرج الخيل الذي لا يُمتطى -في علوّه العائم- إلا لطلب المعالي!
تستعاد في المكان ذكرى أيام الشموخ في الأيام الخوالي. كان الصاحب بن عباد الأصفهاني، الذي يعدّ من نوادر الوزراء في الفضاء الفارسي، يحظي بمديح خمسمئة شاعر، لكن المتنبي امتنع عليه فأرسل إليه “الصاحب” رقيع السلوك، من يعرض عليه نصف ثروته مقابل قصيدة في مديحه. لكن العربي الأبيّ رفض العرض وقال ساخراً “إن غُليماً معطاءً يريدني أن أزوره وأن أمدحه” وزاد شعراً ما معناه، كيف يستوي مديح هذا وقد مَدحنا سيف الدولة. فشتان بين من يدير الجيوش ومن يدير الكؤوس وأوقات المجون “ما الذي تدار عنده المنايا، كالذي تُدارُ عنده الشمول”.
دلفنا، حاتم وأنا، إلى نادٍ ثقافي في حي “الكَرّادة”، خرجنا إليه بعد زيارة إلى شقة يتخذ منها الفنان التجريدي معرضاً دائماً لأعماله. في ذلك المكان استغل الفنان كل سنتيمتر من مساحة الشقة لعرض ما رسمته ريشته أو صنعته يداه من زجاجيات وفخاريات.
أما في النادي الثقافي، ذي الساحة المعشبة والجدران المزدانة بلوحات ورمزيات تراثية عراقية، فقد تناسقت ألوان المناضد وبدا أن تهيئة المكان لوظيفته اقتضى قصّ الأشجار التي تصادف وجودها من جذوعها لا من جذورها، لكي تُستغل أسطح الجذوع لرسوم ونقوش. ولا تنبعث من مكبّرات الصوت سوى المقامات العراقية، وبخاصة ما يسمّونه مقام “الريست” التحريري، المخصص للشعر الفصيح. وعلى كل منضدة يتكئ شاعر عجوز تقابله شاعرة شابة أو شاعر شاب، تعرض الثانية أو يعرض الثاني على الأول، محاولاته ويدور الحديث حول المآخذ والثغرات!
كان العراق آنذاك، وبرغم شقاءات الحصار جميلاً حانياً على نفسه يلوذ إلى حضارته. لم تكن الأصوليات قد خرجت من حظائرها وجمحت!