اللوبيات.. باب دوار لا يتوقف بين عمالقة التكنولوجيا وصناع القرار

في الماضي القريب كانت الكلمة الفصل للبنوك، أما الآن فلقد تبوأت شركات التكنولوجيا العملاقة السيطرة على صناعة لوبيات الضغط الأميركية. لقد أصبح عمالقة التكنولوجيا كغوغل وفيسبوك وأمازون بجدارة شركات احتكارية.. ولهذه الشركات أذرع إعلامية وسياسية ولوبيات ضغط ومن أهم أدواتها مراكز البحوث والدراسات.
السبت 2017/09/16
درس غير قابل للنسيان

واشنطن - طرد الباحث باري لين في معهد “مؤسسة نيو أميركا” New America Foundation للدراسات والأبحاث السياسية بواشنطن، الأسبوع الماضي من عمله بعد 15 عاما قضاها منكباً على دراسة القوة المتنامية لشركات التقنية في وادي السيليكون.

ظلت الأمور في السنوات الـ14 الأولى تسير على نحو “عظيم” وفق رأيه.

يعتقد لين أن غوغل التي هي من أكبر ممولي معهد الدراسات المذكور لم تكن سعيدة بالاتجاه الذي يسير فيه بحثه، والذي كان يحض على “تقنين عمل عمالقة التكنولوجيا كغوغل وفيسبوك وأمازون بوصفها شركات احتكارية”، وفق تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.

وفي رسالة إلكترونية مسربة كتبت آن ماري سلوتر رئيسة المؤسسة “إننا بصدد توسيع علاقتنا مع غوغل في مجالات هامة أساسية… فكر فقط كيف أنك تهدد تمويل مؤسستنا”.

تنفي سلوتر أن طرد لين جاء بسبب انتقاداته لغوغل، لكنها بالتأكيد رواية لا تصدق، فالشركة الأم لغوغل، ألفابيت Alphabet، هي ومديرها التنفيذي إيريك شميدت، تبرعا بـ21 مليون دولار لمعهد New America منذ عام 1999، حتى أن شميدت نفسه ترأس معهد الدراسات عدة سنوات، وتحمل قاعة الاجتماعات الرئيسية في مبنى المعهد اسمه “مختبر إيريك شميدت للأفكار”.

شارع K

تمويل معهد الأبحاث ما هو إلا أحد الأساليب العديدة التي تتبعها أقوى صناعات أميركا في ممارسة نفوذها على صناع السياسة، ومعظم هذا العمل يتم على بعد ربع ميل فقط من البيت الأبيض، في مركز وقاعدة للقوة السياسية أقل شهرة؛ إنه شارع K الواشنطني، مركز صناعة اللوبي والضغط السياسي، وفق الغارديان البريطانية.

إلى جانب معاهد الأبحاث والدراسات السياسية فإن شارع K الواشنطني يعج بممثلي الشركات الضخمة والقتلة المأجورين، فضلاً عن المجموعات الحقوقية، في ثنائية هي وجه الولايات المتحدة الحقيقي حيث يقضي أعضاء جماعات الضغط وقتهم في الإحاطة بأعضاء الكونغرس من كل جانب، للدفع بهم نحو إصدار قوانين مواتية وتشريعات مفيدة تخدم مصالحهم الخاصة.

على مر العقود السابقة مارست البنوك الكبرى وعمالقة الشركات الصيدلانية الدوائية نفوذها الاقتصادي في واشنطن. لكن وادي السيليكون هز المشهد وقفز بعيدا إلى الأمام في سبيل الهيمنة؛ ففي خلال السنوات الـ10 الفائتة أغرقت الشركات التقنية الـ5 الكبرى غوغل وفيسبوك وميكروسوفت وآبل وأمازون واشنطن بأموال اللوبي إلى درجة أنها باتت الآن تتفوق على وول ستريت في إنفاقها.

لقد أنفق كلٌّ من غوغل وفيسبوك وميكروسوفت وآبل وأمازون العام الماضي 49 مليون دولار في أروقة اللوبي بواشنطن، كما أن لوادي السيليكون باباً دوّاراً لا يتوقف، يدخل ويخرج منه المسؤولون التنفيذيون لشركاته في زيارات لا تنقطع إلى كبار مسؤولي الدولة على اختلاف مناصبهم.

لم تكن غوغل سعيدة باتجاه أبحاث باري لين في معهد مؤسسة نيو أميركا وقد تسببت في طرده بعد 15 عاما من العمل

قصة ودرس

غداة عصرها الذهبي في التسعينات من القرن الماضي حصلت شركة مايكروسوفت على ثروة طائلة وحصة كبيرة من السوق، لكن رغم كونها آنذاك إحدى أكبر شركات العالم فإن هذه الشركة الرائدة في دنيا الكمبيوتر وبرمجياته ظلت نائية بنفسها عن أجواء واشنطن السياسية، مكتفية بإنفاق لا يتجاوز 2 مليون دولار على اللوبي عام 1997

فما كان من وزارة العدل الأميركية إلا أن رفعت دعوى قضائية ضد مايكروسوفت، تتهمها فيها باستغلال احتكارها لأنظمة تشغيل ويندوز في تعزيز متصفح الإنترنت الخاص بها Internet Explorer، ومنْحه امتيازات على حساب برامج التصفح المنافسة.

وبعد مضي سنوات من المعارك القضائية في ساحات المحاكم، أجبرت مايكروسوفت على تقديم تسهيلات لمنافسيها، من أجل دمج برامجهم في نظام ويندوز. لقد خلَّفت تلك المعركة القضائية الطويلة جروحاً غائرة في شركة مايكروسوفت، فصارت أكثر حيطة وحذراً وأقل عدائية.

إن هذا الحدث الذي شكَّل منعطفاً حاداً في مجرى وادي السيليكون قد لقَّن كبار الشركات التقنية درساً قاسياً، هو إما أن تلعب اللعبة السياسية وإما أن تستعدّ لعقاب واشنطن.

وعى إيريك شميدت من موقعه الأمامي في إدارة Novell وكونه مديراً سابقاً لـSun Microsystems، الدرس جيدا فقد شهد كيف سُلبت مايكروسوفت علنياً وجُرّدت من قوتها على مرأى من الكل، فلما عين شميدت مديراً تنفيذياً لغوغل عام 2001، ظلَّ الدرس المستفاد يرن في أذنه.

وبذلك -وتحت إدارة شميدت- زادت شركة غوغل كثيراً استثماراتها في اللوبي بغية كسب الأصدقاء، والتأثير على صنَّاع السياسة في كابيتول هيل (بناء المقر الرئيسي للسلطة).

وبالمقارنة مع عام 2003 الذي أنفقت فيه الشركة مبلغ 80 ألف دولار فقط على اللوبي، باتت الشركة الأم ألفابيت Alphabet تنفق الآن مبالغ طائلة على اللوبي، تفوق أي شركة أخرى، فبلغ إنفاقها 9.5 مليون دولار في النصف الأول من عام 2017 الجاري وحده، فيما وصل إنفاقها العام الماضي إلى 15.4 مليون دولار.

المخاوف نفسها هي التي دفعت شميدت -الذي شارك بقوة فيما مضى في حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الانتخابية- إلى الإذعان لدونالد ترامب، رغم أنه قال في يناير الماضي إن ترامب قد يقدم على فعل “أشياء شريرة”، لكن بحلول شهر يونيو “تغير رأي” شميدت؛ لقد أصبح يثني على إدارة ترامب وعلى تشجيعها لـ”توفيرها سيلا عارما من الفرص الجديدة”.

وادي السيليكون يمارس نفوذه على صناع السياسة وعلى المواطنين عبر أساليب "القوة الناعمة" التي تضم تمويل معاهد الدراسات السياسية الفكرية وجهات الأبحاث

مستنقعات موحلة

ليست غوغل وحدها، بل فيسبوك وأمازون وآبل ومايكروسوفت أيضاً تعثرت مساعيها الفاشلة السابقة، لخطب ود صناع السياسة، جميعها تفتّ العملة وتضخ الأموال وتغدقها على واشنطن.

إن وادي السيليكون يمارس نفوذه على صناع السياسة وعلى المواطنين على حد السواء، عبر وسيلة أخرى ألا وهي أساليب “القوة الناعمة” التي تضم تمويل معاهد الدراسات السياسية الفكرية وجهات الأبحاث التي تصنع الرأي والفهم والأفكار ومؤسسات التجارة وقوتها الإعلامية التي تمارس جميعها الضغوط على الحكومة أو تؤثر في المجتمع المدني.

وكما يصفها المطلعون من داخلها بعد أن يغادروها “إنه عالم مستنقعات موحل، فكل مؤسسات ومعاهد الأبحاث والدراسات هذه تكتب تقارير وأوراقاً بحثية مطولة وتزج بها في وجه المسؤولين لتخويفهم من مغبة فرض قوانين جديدة قد تقتل سوق تجارة الإنترنت”.

وهناك طرق أخرى للتغلغل في طبقات القرار كما حصل في الاجتماع السري الذي دام 3 أيام وعقدته غوغل جنوب غربي صقلية، أوائل أغسطس الماضي، والذي نُقِل إليه قادة رجال الأعمال بالطائرات المروحية الخاصة واليخوت الفاخرة للاستمتاع بصحبة إيما واتسون وشون بين والأمير هاري والسير إلتون جون في مناسبة أريدَ منها التقاء العقول الفذة لمناقشة المشكلات والقضايا العالمية الاقتصادية والسياسية ومستقبل الإنترنت.

إن هناك جهود لكي تحافظ شركات التكنولوجيا على الزيف الخادع الذي توهمنا به أنها كوكبة من العباقرة يبذلون قصارى جهدهم من أجل خير الإنسانية”.

أما الواقع فهو أن هذه الشركات يديرها أعتى رجال الأعمال في أميركا وأكثرهم جشعا حيث ألغوا إمكانية التنافس وضربوا عرض الحائط بالحقوق المستحقة للضرائب كما يشككون في دور الدولة والحكومة.

18